ثقل الماضي - Wonder Essays

هذا المقال يتحدث عن إدوارد سنودن، ودوري كرة القدم، ومعظمنا نحن البقية على ما أظن.

ثقل الماضي
Past
كتابة: تود ماي[1] ترجمة: مشاري المشاري
22 ديسمبر 2013

هذا المقال يتحدث عن إدوارد سنودن[2]، ودوري كرة القدم، ومعظمنا نحن البقية على ما أظن.

رغم أنه يتعلق بسنودن، إلا أنه ليس عن إدارة الأمن القومي أو المراقبة أو الخصوصية. ورغم أنه يتعلق بدوري كرة القدم، إلا أنه ليس عن الإصابات الرياضية. بل هو عن المسار غير المتوازن للحياة البشرية.

الأعمال التي قام بها سنودن، بغض النظر عما إذا كنا نؤيدها أو لا، كان لها تأثير هائل على الجدل الدائر حول الخصوصية في الولايات المتحدة ومن المرجح أن تستمر بهذا التأثير. لقد كان لها تقريباً التأثير الذي أراده سنودن. وهو أنها غيرت طريقة تفكير الكثير منا بشأن علاقتنا بالحكومة وبالتكنولوجيا الخاصة بنا، ولهذا السبب، فإنها تضفي على هذه الفترة من حياته بريقاً سيظل معه دائماً. سيبقى في ذاكرته، وفي ذاكرة الآخرين.

هناك افتراض أود أن أطرحه هنا، وهو افتراض لا أستطيع إثباته ولكنني أعتقد أنه غير قابل للجدل. من غير المرجح أن يقوم إدوارد سنودن بأي شيء مماثل مرة أخرى. لن يكون لأي شيء يفعله طوال حياته صدى مثل ما فعله مؤخراً. وأصحاب النفوذ سيضمنون ذلك. ولا شك أنه يعرف هذا. ستستمر حياته، وقد لا تكون مؤلمة كما يظن البعض. لكن المهم أن حياته ستكون قد بلغت ذروتها في سن 29 أو 30.

هذا لا يعني أن أيام سنودن لن تكون لها متعها أو معناها. بل على الأرجح أن تكون تلك المتع وذلك المعنى كامنة دائماً في خلفية الفترة المهمة من ربيع عام 2013.

متوسط العمر المهني للاعبي كرة القدم هو ست سنوات. بالنسبة للكثيرين منهم، تلك السنوات - بالإضافة إلى سنوات دراستهم الجامعية - هي الأكثر إثارة في حياتهم. حيث يمثلون المدن التي يلعبون فيها، ويستمتعون بتشجيع الجماهير ويحصلون على رواتب أعلى مما يمكن أن يحصلوا عليه طيلة حياتهم. يبني العديد منهم روابط عميقة مع زملائهم في الفريق. إنهم يحققون في الواقع ما يحلم به العديد من الأطفال الذكور. وبعد ذلك ينتهى كل شيء. إذا سلموا من الإصابات الرياضية الخطيرة، فيمكنهم أن يتوقعوا العيش 45 أو 50 عاماً أخرى دون لعب كرة القدم.

بالنسبة لكثير من الناس - وليس فقط الناشطين مثل سنودن أو الرياضيين المحترفين - تصل الحياة إلى ذروتها مبكراً. لكنها لا تنتهي هناك. تمضي مثقلة بعبء قمة لا يمكن بلوغها مرة أخرى، ولا يمكن النظر إليها إلا بالعودة إلى الوراء. هذا لا يعني أن الأشياء الجيدة والجديرة بالاهتمام لن تحدث لهم، فبالنسبة لقلة من المحظوظين ستكون هناك قمم أخرى أعلى. ومع ذلك، بالنسبة للكثيرين، ستكون تلك اللحظات السابقة شبحاً يطاردهم بهدوء، وتذكيراً بما حدث وما لا يمكن أن يحدث مرة أخرى.

قد نفكر في هذا النوع من الحياة، الحياة التي يصل مسارها إلى ذروته المبكرة ثم ينحدر، باعتبارها استثنائية. بطريقة ما هي كذلك. لكن بطريقة أخرى هي ليست استثنائية. هناك على وجه التحديد شيء ما في الحدود القصوى لهذه الحياة يُبرز ظاهرة تتضح للبقية منا بشكل أكثر دقة. تظهر في أزمنة مختلفة وأماكن مختلفة وتحت أشكال مختلفة، ولكنها موجودة أمامنا على أي حال.

بعد أن أنهيت دراستي الجامعية، قضيت بعض الوقت في شركة صغيرة في وظيفة ساعٍ. في أحد الأيام، استدعاني أحد المدراء إلى مكتبه. طلب مني أن أغلق الباب. أول شيء قاله هو أنه كسب أموالاً أكثر مما كنت سأكسبه طيلة حياتي. (كيف عرف ذلك؟) ثم قال: "خذ وقتك". أخبرني أنه عالق في حياة لا يستطيع الابتعاد عنها: لقد اعتادت زوجته وأطفاله على العيش بشكل جيد، ولم يملك الشجاعة أو الأنانية أو أياّ كان ذلك الشيء المطلوب للابتعاد عنهم. كان يرى سنوات عمره تمضي أمامه مثل سهل كانساس.

أعيش حالياً في مدينة تتمحور حول فريق كرة القدم الجامعي. في أيام المباريات يأتي الخريجون من جميع أنحاء ولاية كارولاينا الجنوبية وخارجها. العديد من طلابي مروا بتجربة أن يقوم الخريجون بسحبهم جانباً لتقديم النصيحة الأزلية: استمتع بسنوات دراستك الجامعية، لأنها أفضل سنوات حياتك. هذه النصيحة، إذا كانت صحيحة، فهي حزينة ومخيفة في آن واحد. سألني أحد الطلاب ذات مرة، هل حقاً أن المنحدر يبدأ من هنا؟

لا يجب أن نفكر في القمم على أنها تحدث في وقت مبكر من الحياة. ليس كل حياة مبنية على صعود حاد إلى قمة مبكرة ثم سقوط تدريجي أو شبه تدريجي. أنظر مثلاً إلى الأم التي جعلت تربية أطفالها أمراً مركزياً في حياتها. لقد كرست عقوداً لتعليمهم. وفي يوم ما، يذهب آخر هؤلاء الأطفال إلى الكلية. ومع ذلك، يجب أن تستمر، مجردة من مشروعها المركزي. هل سيكون هناك المزيد في حياتها؟ هذا واضح. مع بعض الحظ، سوف ترى أطفالها ينجحون في حياتهم وربما يكون لديها أحفاد تأنس بهم. الأمر الأقل وضوحاُ هو ما إذا كان أي من هذا سيشغلها بنفس الطريقة التي كان يشغلها عندما كانت تطعم أطفالها، أو ترعاهم عندما يمرضون، أو تقرأ لهم قبل النوم، أو تعلمهم كيف يركبون الدراجة.

يمكنني أن أذكر العديد من الأمثلة المشابهة. وأنت أيضاً يمكنك ذلك. هناك فترة معينة من حياتنا تثمر معنى ينيرها، ويجعلها تتوهج بشكل أكثر سطوعاً مما قد نظن أو يحق لنا أن نتوقع، ثم ينتهي كل شيء. تستمر الحياة، لكن هناك شيئاً ينقصنا، شيئاً ضاع منا. وما ضاع، وما ينقصنا، يبقى رغم كل شيء، يشدّ عالمنا بغيابه.

سيرفض الكثيرون، بشكل معقول أيضاً، التوصيف الذي قدمته للتو. ففي نهاية المطاف، من يستطيع أن يقول إن الحياة قد بلغت ذروتها؟ كيف لنا أن نعرف، ربما باستثناء حالات فريدة مثل سنودن أو العديد من لاعبي كرة القدم، أنه لا توجد قمم أعلى في مستقبلنا؟ من يستطيع أن يقول بثقة إنه قد عاش بالفعل أفضل سنوات حياته؟

أعتقد أن هذه الرؤية تزيد من صعوبة الأمر. فنحن لا نعرف، ولا يمكننا أن نعرف ما إذا كان المستقبل سيجلب لنا تجربة جديدة تشعل النار من جديد أو أنها ستكون جمرة تموت ببطء. لذا يصبح السؤال المحير، كيف نتعامل مع هذا الجهل؟ هل نسعى إلى تحقيق المزيد من القمم، ونراقب بقلق إذا لم تتحقق؟ وكيف نحقق تلك القمم؟ ففي نهاية المطاف، لسنا وحدنا من يحدد مسار حياتنا، بل إن ظروفنا أيضاً تساهم في ذلك. ومن ناحية أخرى، هل نستمر في حياتنا آملين بما هو أفضل؟ أم أننا بدلاً من ذلك، كما يفعل كثير من الناس، نعيش ما أسماه ثورو[3] حياة اليأس الهادئ؟

هذا لا يعني أن الحنين إلى الماضي قدر لا مفر منه. الدرس الذي أحاول استخلاصه من التفكير في أمثلة سنودن ولاعبي كرة القدم ليس أن الإثارة تنتهي مبكراً. بل إن هذه الأمثلة في حدودها القصوى تُبرز شيئاً آخر. بالنسبة لمعظمنا، وبينما تتكشف حياتنا، فإننا ببساطة لا نعرف ولا نستطيع أن نعرف ما إذا كنا قد وصلنا إلى الذروة في منطقة معينة من حياتنا - أو في حياتنا كلها - بأكثر الطرق أهمية لنا. إن الماضي يثقل كاهلنا، ليس لأنه يجب أن يلغي المستقبل، بل لأنه ذو حمولة غير مؤكدة.

في الحقيقة، إن مسار حياتي هو الذي يحفزني على هذه التأملات، فهي حياة لم تبلغ ذروتها مبكراً. لقد كنت محظوظاً في الأسرة والعمل. حققتُ نجاحاً لا بأس به في الكتابة والتدريس. كنت دائماً أسعى دون كلل إلى التوسع في نشاطاتي بما في ذلك الكتابة. وأنا في هذا مثل كثيرين آخرين. لكني الآن كبرت في السن. لن تسمح لي ركبتاي بالمشاركة في مسابقات الجري، أو استكشاف بعض الأماكن التي كان من حسن حظي أني زرتها خلال العقود القليلة الماضية. كتبت عن العديد من الأسئلة التي قربتني من الفلسفة، وكتبت عن أسئلة أخرى اكتشفتها منذ دخولي هذا المجال. هل سيكون هناك المزيد من الأسئلة التي ستأسرني بنفس الطريقة؟ هل سيكون هناك المزيد من الأماكن التي سأكتشفها والتي ستجعلني أشعر بالكمال كما حدث في رحلاتي إلى الصحراء الكبرى والقطب الشمالي؟ هل ستكون علاقتي بأطفالي عندما يبتعدون عن المنزل بنفس القوة أو العمق اللذين كانت عليهما أثناء نشأتهم؟ إذا كنت صادقاً مع نفسي فإن الإجابة على هذه الأسئلة ستكون: لا أعرف.

سيعترض آخرون على هذه التأملات من زاوية أخرى. سيذكرونني بأن هناك العديد من ثروات الحياة التي ليس فيها ذروة أو قمة - صداقات، علاقات حب، مهن ذات معنى. من حيث الاستقرار، تبدو هذه الثروات شبه محصنة ضد ويلات المسار المكون من قمم مبكرة تليها وديان لا نهاية لها. هذا صحيح بالتأكيد، لكنه يهمل عنصراً مهماً في تلك الثروات الأكثر هدوءاً: فهي ليست ثابتة في حد ذاتها. الحب له قممه ووديانه الخاصة، وبمجرد تجاوز قمة معينة لا يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كانت ستكون هناك قمة أخرى أو لا. وكذلك الصداقات. نحن نفهم ذلك لأننا جميعاً لدينا أصدقاء تكون الذكريات معهم نقطة الاتصال المركزية. هذه الصداقات محدودة الصلاحية، فهي مرتبطة بزمن كان نابضاً بالحياة ولكنه لم يعد موجوداً. ويمكن قول الشيء نفسه عن المهن. فحتى المهن الأكثر أهمية تجعل المرء يتساءل، بعد استنفاذ المشروع أو مكافأة التقدير، هل سيكون الأمر جيداُ إلى هذه الدرجة مرة أخرى؟

أميل إلى القول إنه يبدو جزءاً من بنية الحياة البشرية أن تكون على هذا النحو. فهي في نهاية المطاف نتاج التقاء ثلاثة عناصر مشتركة بيننا جميعاً تقريباً: هناك مسارات لحياتنا، وبعض اللحظات في تلك المسارات لها أهمية كبيرة، ولا يستطيع المرء أن يقرأ مستقبله. لكن قد يكون من المبالغة القول إنها جزء من الحالة الإنسانية. هناك بالتأكيد حيوات تُعاش بعدد أقل من القمم أو بقدر أكبر من الاتزان. (أليس هذا ما تسعى البوذية إلى غرسه؟) وهناك حيوات أخرى، عدد كبير جداً منها، تستهلكها مهمة البقاء أكثر من مهمة المعنى. لكن بالنسبة للكثيرين منا، وخاصة أولئك الذين لديهم الموارد التي تمكنهم من قراءة هذا المقال، فعلى الرغم من أن هذه الحالة قد لا تكون حالة إنسانية، إلا أنها بالتأكيد حالتنا.

كنت أود أن أختتم كلامي بقليل من الحكمة الفلسفية التي من شأنها أن تسمح لنا جميعاً بالإبحار في هذه الحالة. لقد كتبت هنا من قبل عن كيفية التفكير في مسار حياتنا بطرق تكشف عن المعنى، مدعياً أن هناك موضوعات سردية - الصمود، الشدة، الفضول - يمكن أن تعطي معنى لحياتنا. ولكن الصعوبة هنا مختلفة. وليس لدي إجابة لها. يتعلق الأمر باحتمالية الحياة، وحقيقة أن معظمنا سيصل، في مرحلة أو أخرى، إلى قمة لا يمكننا أن نعرف ما إذا كنا سنحققها مرة أخرى. نحن لسنا جميعاً مثل إدوارد سنودن في هذا الصدد - رغم أن لا أحد متأكد من ذلك - ولكننا، عاجلاً أو آجلاً، سنتعرض لملاحقة ماضٍ يلوح في أفق مستقبل غامض.

في بعض الأحيان تقدم الفلسفة إجابات لأسئلة ربما كانت تطاردنا. ثم تكون مثل البلسم. ولكن، في بعض الأحيان، لا يمكنها في لحظة معينة أن تفعل شيئاً أكثر من إظهار تلك المخاوف إلى العلن. التفكير في إدوارد سنودن، والقراءة عن حياة لاعبي كرة القدم - على الأقل البعض منهم، الذين ربما قدم لهم الدوري صنيعاً مشكوكاً فيه لحمايتهم من حقيقة أنهم قد لا يتذكرون حتى ذروة نجاحاتهم - قد أثار القلق لدي بشكل ملح لم يسبق له مثيل. على كل حال، إذا لم تتمكن الفلسفة دائماً من تقديم الإجابات الصحيحة في لحظة معينة، فربما يمكنها على الأقل إثارة بعض الأسئلة الصحيحة.

ومن بين تلك الأسئلة، السؤال عن كيفية تحمل المرء عبء قممه هو بلا شك أحدها.

Likes
22
Views
631
[1] تود ماي أستاذ الفلسفة في جامعة كليمسون. أحدث مؤلفاته كتاب ”الصداقة في عصر الاقتصاد“.
[2] إدوارد جوزيف سنودن (ولد في 1983) موظف سابق في وكالة الأمن القومي الأمريكية قام بتسريب معلومات سرية للغاية في عام 2013.
[3] هنري ديفيد ثورو (1817-1862) فيلسوف وشاعر وعالم بيئة وناشط سياسي أمريكي.
Source: The Weight of the Past
By Todd May