رفاق في البؤس - Wonder Essays

كنت قد وصلت للتو إلى المنزل من إجازتي الصيفية عندما وجدت دراسة تقول إن نيويورك هي المدينة الأكثر تعاسة في أمريكا.

رفاق في البؤس
Companions in Misery
كتابة: ماريانا أليساندري[1] ترجمة: مشاري المشاري
22 نوفمبر 2014

كنت قد وصلت للتو إلى المنزل من إجازتي الصيفية - حيث قضيت أسبوعاً في كوخ في ولاية مينيسوتا كان مكتوباً في دليله الترويجي "الكآبة ممنوعة" - عندما وجدت دراسة تقول إن نيويورك هي "المدينة الأكثر تعاسة في أمريكا". أشك في أن نتائج هذه الدراسة قد فاجأت الكثير من الناس - قد يكون من الصعب إرضاء النيويوركيين، سواء في التراث أو في الواقع، حيث يشتهرون بالتحدث بصراحة عن همومهم - ولكن باعتباري نيويوركية من حيث المولد والنشأة، وكفيلسوفة، أشك في تعريف هذه الدراسة للسعادة.

سألت الدراسة المعنية، وهي عبارة عن استطلاع أجرته هيئة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، عن مدى "رضا" الأمريكيين عن حياتهم - راضون جداً، راضون، غير راضين، أو غير راضين بالمرة. لكن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية استخدم البيانات لاستخلاص نتائج بشأن "السعادة". ربما لا يمانع البعض في استخدام مصطلحي الرضا والسعادة بشكل تبادلي، لكنني لا أجدهما كذلك. ظهرت الدراسة بعنوان "مدن غير سعيدة"، وتلتها العناوين الرئيسية اللاذعة ضد النيويوركيين.

كنت على يقين من أن أي شخص (حتى النيويوركي) يمكن أن يكون غير راضٍ وسعيداً في الوقت نفسه، وأن فعل التذمر ليس في الواقع دليلاً على التعاسة، ولكنه شيء يمكن أن يؤدي بطريقته الخاصة إلى سعادة أكبر.

في مثل هذه الحالات، أقدر احترام الفلاسفة للكلمات، حيث قال عدد منهم بإبقاء السعادة منفصلة عن الرضا. في مقالته المنشورة عام 1861 بعنوان "النفعية"، فرّق جون ستيوارت ميل بعناية بين الاثنين، قائلا إن الشخص يمكن أن يشعر بالرضا عن طريق إعطاء الجسد ما يشتهيه، ولكن السعادة الإنسانية تتضمن أيضا تحفيز العقل. وهذا يعني أن السعادة والرضا قد يتعارضان أحياناً، وأن أولئك الذين يبحثون عن السعادة، وحتى الذين يصلون إليها، قد يظلون غير راضين. اعتبر ميل هذا أمراً جيداً: "من الأفضل أن تكون إنساناً غير راضٍ مقابل أن تكون خنزيراً راضياً، ومن الأفضل أن تكون سقراط غير راضٍ مقابل أن تكون أحمق راضياً".

كذلك اعتقد فيلسوف القرن التاسع عشر الألماني آرثر شوبنهاور، وهو أحد أشهر المتشائمين في التاريخ، أن في الحياة ما هو أكثر من الرضا. لقد اعتقد أن الوصف الصادق لعالم سلبي أفضل من تغطيته بأكاذيب جميلة. هذا يبدو مشابهاُ جداً لحال نيويورك.

هناك الكثير من الأمور التي يمكن التذمر منها عندما تعيش في مدينة كبيرة: الازدحام، الحفر، ارتفاع الأسعار، تأخير القطارات، راكبو الدراجات، النحل. عندما نشأت في روكواي وكنت أذهب إلى المدرسة في بروكلين، كان من الطبيعي تماماً أن أتذمر، وكان كل من أعرفه تقريباً يفعل ذلك. تذمرنا لم يكن مؤشراً على مستوى سعادتنا. ولكن، في تجربتي خارج المدينة، كان الناس وبشكل روتيني يسيئون تفسير تعبيراتي العفوية على أنها تعاسة. فهم يعتبرون التذمر علامة على السلبية التي يعتقدون أنها يجب أن تستبدل بالإيجابية حتى نكون سعداء. "إذا لم يكن لديك شيء لطيف لتقوله، فلا تقل أي شيء على الإطلاق" هو مثال على هذا الموقف الواسع الانتشار، وإن كان مبتذلاً.

عندما انتقلت إلى تكساس، تعلمت بسرعة أن الحديث عن المطر لم يعد مقبولاً اجتماعياً. "نحن نحتاجه!" أصبح هذا هو ردي القصير الجديد على أحاديث المطر لتجنب لقب ديبي داونر[2]. في عالم يرحب بالبهجة ويستهجن التجهم، فإن أولئك الذين يعبرون عن عدم رضاهم كثيراً ما يتعرضون للتنمر بشكل مؤدب لكي "ينظروا إلى الجانب المشرق" من الأمور السيئة.

وبطريقة أقل صعوبة في التحمل، اقترح قدماء الرواقيين أيضاً أن نتوقف عن التذمر، وأن نقلل من المشاعر السلبية مثل الحزن والغضب من أجل تحقيق أقصى قدر من الفرح والطمأنينة وراحة البال. المجموعة الأولى من المشاعر تؤدي إلى حياة بائسة بينما تؤدي المجموعة الثانية إلى حياة طيبة "بما يتوافق مع الطبيعة". لقد اعتقدوا أن البؤس متأصل في محاولة التحكم بالأشياء الخارجة عن سيطرتنا (الثروة والشرف والسمعة) بدلاً من العمل على تلك الأشياء التي نسيطر عليها (الرغبات ومشاعر البغض والآراء).

في كتابه "إنكيريديون"، يقدم إبكتيتوس، الرواقي اليوناني والعبد السابق، التذمر أيضاً على أنه غير مبرر لأنه مبني على اعتقاد خاطئ بأننا نستطيع السيطرة على ما لا يمكن السيطرة عليه. يتفق الكثير من الناس اليوم على أن التذمر عديم الفائدة و"لن يوصلك إلى أي مكان". يفترض هذا الموقف السائد أن شيئاً ما يكون مفيداً فقط إذا كان بإمكانه تغيير الحقائق الصلبة. على سبيل المثال، قام زوجي مؤخراً بتوجيه كلامه لطفلي الصغير قائلاً إن البكاء في السيارة لا فائدة منه لأنه لن يعيدنا إلى المنزل سريعاً. وبالمثل يخبرني الناس أنه من غير المجدي القلق والتذمر من أشياء خارجة عن سيطرتي. لابد أنهم يعتقدون، مثل الرواقيين، أنني عندما أفهم هذا وأتقبله أخيراً، سأوافق على أن القلق والتذمر لا فائدة منهما.

ولكن ماذا لو لم يكن قلقي وتذمري محاولة لتغيير قوانين الطبيعة؟ هل يمكن أن تبقى سلبيتي مفيدة، ويمكن أن توصلني إلى مكان ما؟

فيلسوف القرن العشرين الإسباني ميجيل دي أونامونو لم ينصح بإقصاء المشاعر السلبية أو "الاحتفاظ بالجانب المشرق من الحياة". في كتابه "الشعور المأساوي بالحياة" تحدث عن قلقه بشأن احتمال عدم وجود حياة بعد الموت، مضيفاً أنه عجز عن فهم الأشخاص الذين لم يشاركوه أبداً معاناة القلق من هذا الأمر أو من يقينهم بموتهم.

اعتقد أونامونو أن الحياة التي تستحق أن تعاش تقوم على التواصل العميق مع الآخرين، وأن هذا يحدث بشكل صادق من خلال السلبية. كتب أونامونو في كتابه "ديني": "كلما شعرت بألم كنت أصرخ وأفعل ذلك علناً" من أجل "الضرب على أوتار الحزن في قلوب الآخرين لتبدأ بالعزف". بالنسبة لأونامونو، الحب الحقيقي يوجد في المعاناة مع الآخرين، والسلبية ضرورية للتعاطف والتفهم. إذا حاولنا إنكار أو إخفاء أو إقصاء الأمور السلبية من حياتنا، سنكون غير قادرين على التعامل مع الأشخاص الذين يعانون.

التذمر مفيد، ولكن يجب علينا أولاً أن نحطم ثم نعيد بناء ما تعنيه كلمة "مفيد". إبني لا يبكي في السيارة ليعود إلى المنزل سريعاً؛ بل هو يبكي لأنه محاصر. عندما أقع في مواقف غير سارة وأكون محاصرة، فإنني أبكي أيضاُ وأنتحب وأتذمر. أقوم بإظهار مشاعري. أنفس عنها. أفعل هذه الأشياء لأنها مفيدة، ولكن الفائدة هنا ليست من النوع الذي عادة ما يفكر فيه الناس. فالفائدة لا تقتصر على إبطال ما لا نحبه في وضعنا؛ بل يمكن أن تعني أيضاً التعامل مع وضعنا بشكل خلاق. أنا أستخدم السلبية لتغيير نفسي - للتحرر من خيبة الأمل والغضب والإحباط - والأهم من ذلك، للتواصل مع الآخرين.

يعتبر التذمر جزءاً من تعبيرنا اليومي، وهو أحد الطرق التي يتواصل بها النيويوركيون مع بعضهم البعض. بالإضافة إلى تبادل المجاملات، فإننا نتبادل أيضاً مشاعر عدم الرضا وربما بشكل أكبر في كثير من الأحيان. وفي كل هذه التفاعلات العفوية، نعترف بوجود بعضنا البعض. شخصان غريبان يتذمران على رصيف قطار الأنفاق يمكن أن ينتهي بهما الأمر إلى تبادل الابتسامات أو الضحكات، وعلى الرغم من أن ذلك قد لا يكون بداية صداقة تدوم مدى الحياة، إلا أنه يبقى مثالاً لحسن الجوار. إذا كان موضوع المحادثة سلبياً وليس إيجابياً، فإن هذا لا يعني أننا غير سعداء، بل في كثير من الأحيان يكون العكس هو الصحيح. تذمر مضحك من الشخص المجاور لي يمكن أن يخفف من مزاجي ومزاجه بسرعة. ولكن احتمال أن يكون أحدنا متذمراً سعيداً يضيع عندما نساوي بين عدم الرضا والتعاسة.

من الخارج، قد تبدو صورة النيويوركيين المتذمرين وغير الراضين بمثابة تجسيد لتصور شوبنهاور عن البشر باعتبارهم سجناء "يتحملون عقوبة الوجود". الصور العقابية ليست نادرة ولا جديدة في الفلسفة. أفلاطون وصفنا بأننا سجناء لأجسادنا. الرواقيون وكامو حكموا علينا بمصيرنا المحتوم؛ سارتر بحريتنا. لكن تصور شوبنهاور عنا باعتبارنا كائنات محطمة محكوماً عليها بالسجن الجماعي مدى الحياة يقوده إلى الأخلاق بدلاً من الفردية. فبدل أن نتحرر من زملائنا في السجن، يقترح شوبنهاور أن نبقى كما نحن ونقضي عقوبتنا بشكل جماعي.

إن تصوره عن الآخرين باعتبارهم "رفاقاً في المعاناة" في كتابه "حول معاناة العالم" يشجعنا على تنمية نقطة ضعف لدينا حتى بالنسبة للأفراد الأكثر عيوباً. إن كوننا جميعاً محكومين بنفس المصير السيزيفي يجب أن يجعلنا متعاطفين بدلاً من التنافس، وأن نعمل معاً بدلاً من الانعزال، وأن نعتمد على بعضنا البعض بدلاً من أنفسنا فقط. في حين أن كامو، في مقالته الشهيرة عن الأسطورة[3]، جعل سيزيف يعاني من عقوبته وحده، إلا أن تصور شوبنهاور عن الخلاص من خلال البؤس المشترك قد يمنح سيزيف، ويمنحنا، جيراناً نحبهم. ومع ذلك، يخلص كامو إلى أنه "يجب على المرء أن يتخيل سيزيف سعيداً". إذا كان كامو يستطيع أن يتخيل السعادة لرجل محكوم عليه للأبد بالعمل الشاق الذي لا معنى له، فربما يمكننا أن نفعل الشيء نفسه بالنسبة للنيويوركيين غير الراضين. سواء كنا حزينين على وفاة صديق أو نشكو من نظام مواقف السيارات على أحد جانبي الشارع، أعتقد أن شوبنهاور كان محقاً في وصفنا بـ "رفاق في البؤس"، مع التركيز على كلمة رفاق.

Likes
16
Views
631
[1] ماريانا أليساندري أستاذة مساعدة في الفلسفة في جامعة تكساس-بان أمريكان.
[2] ديبي داونر شخصية خيالية ظهرت لأول مرة في برنامج SNL الكوميدي عام 2004 وأصبحت رمزاً للشخص المتشائم الذي يجعل الآخرين يشعرون بالسوء باستمرار أو يفسد مزاجهم بالتعليقات السلبية.
[3] ”أسطورة سيزيف“ مقال فلسفي كتبه ألبير كامو عام 1942.
Source: Companions in Misery
By Mariana Alessandri