ابن شاول وكيركجور والمحرقة - Wonder Essays

غالباً ما يكون الفن موضوعاً للفلسفة. ولكن بين الحين والآخر يظهر عمل فني - أي شيء مختلف عن المحاضرات والكلمات المكتوبة على صفحة - ليقوم بوظيفة الفلسفة.

”ابن شاول“ وكيركجور والمحرقة
Son of Saul
كتابة: كاتالين بالوغ[1] ترجمة: مشاري المشاري
28 فبراير 2016
I

غالباً ما يكون الفن موضوعاً للفلسفة. ولكن بين الحين والآخر يظهر عمل فني - أي شيء مختلف عن المحاضرات والكلمات المكتوبة على صفحة - ليقوم بوظيفة الفلسفة. يُعَدّ "ابن شاول"، الفيلم الذي تدور أحداثه في أوشفيتز-بيركيناو أثناء محرقة الهولوكوست، عملاً فنياً من هذا النوع. إنه يتعامل مع مجموعة من المسائل العميقة التي شغلت أيضاً الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجور في القرن التاسع عشر.

فاز فيلم "ابن شاول"، الذي كتبه وأخرجه المجري لازلو نيميس، بجوائز في مهرجان كان وغولدن غلوب وأماكن أخرى قبل أن يشق طريقه إلى الأوسكار ليفوز بجائزة أفضل فيلم أجنبي. الفيلم يتناول يوماً في حياة شاول، أحد أعضاء زوندركوماندوس، وهي مجموعة تتكون في الغالب من سجناء يهود أجبرهم النازيون على المساعدة في توجيه الناس إلى غرف الغاز، وحرق الأجساد، وجمع الذهب والأشياء الثمينة من الجثث. يخلق الفيلم تفاعلاً مباشراً وتجريبياً وعميقاً مع هذه الأحداث من خلال التركيز المستمر على كشف خبايا عالم شاول لحظة بلحظة.

في لقطات طويلة ومتواصلة، نرى حقيقة معسكر الموت تتكشف، ويصبح الإحساس بها ملموساً. ومن خلال استخدام اللقطات المقربة والصور ذات البؤرة الضحلة، لا يترك نيميس أي فرصة للمشاهدين للانفصال عن وجهة نظر شاول. وكأننا نتبع ظله في الجحيم. فمن خلال غمر المُشاهد بهذه الطريقة، يضعنا نيميس هناك مع شاول. يبدو أن هذا ضرورة أخلاقية بالإضافة إلى كونه خياراً جمالياً. من خلال دفع المُشاهد إلى المشاركة الكاملة والعميقة، يجسد الفيلم احترام الأحداث الفردية للمحرقة، وهو ما فشلت فيه الكثير من المعالجات التجارية للموضوع. الفيلم عبارة عن رواية شخصية ذاتية عميقة للمحرقة.

الفكرة الرئيسية للفيلم تدور حول عالم شاول الداخلي، فقدان روحه واستعادتها. في مشهد بعد آخر نرى وجهه لا يتأثر، وعينيه تراقبان ولكن عن بعد؛ هناك شعور بغيض باللامبالاة من طرفه ومن طرفنا نحن أيضاً. لكنه يشهد بعد ذلك صبياً صغيراً ينجو من الغاز لفترة وجيزة، ليتم إعدامه بعد دقائق قليلة على يد طبيب نازي، ربما كان جوزيف منجيل. منذ تلك اللحظة، يصبح مستغرقاً في فكرة دفن الصبي بطريقة لائقة حسب الديانة اليهودية. يدّعي أن الصبي ابنه. الخلفية الدرامية لشاول مفقودة تماماً من الفيلم - فنحن لا نعرف حتى ما إذا كان لديه ابن بالفعل - ولكن هذه نقطة جانبية. ما يهم بالنسبة له ولنا هو أنه قادر على الشعور مرة أخرى.

II

تركز فلسفة كيركجور على التحذير من الميل المتزايد إلى اتخاذ منظور موضوعي ومجرد للعالم، حيث تَسارَعَ هذا الميل إلى حد كبير في العصر الحديث. في حين أن المثال النموذجي لذلك هو العلم، إلا أنه أصبح أكثر إشكالية عند تطبيقه على حياة الفرد ووجوده. إن تعريف الحياة من خلال تجريداتها هو، من وجهة نظر كيركجور، خطأ خطير ولكنه شائع جداً.

بشكل عام، هناك طريقتان مختلفتان جذرياً لفهم علاقتنا بالعالم: الموضوعية والذاتية. الموضوعية هي توجه نحو الواقع يقوم على التجريد، بدرجات متفاوتة، بعيداً عن التجربة الذاتية ووجهات النظر الفردية. من ناحية أخرى، يعتمد التوجه الذاتي على التناغم مع التجربة الداخلية للشعور والحس والتفكير والتقييم التي تكشف عن مكنوناتها في حياتنا اليومية. وقد ظهر هذا التمييز في الخطاب الفلسفي المعاصر، وبشكل ملحوظ في عدد من مقالات توماس نيجل، وأشهرها "كيف سيبدو الأمر لو كنت خفاشاً؟"

إن النجاح المذهل الذي حققه العلم في السنوات الثلاثمائة الماضية قد أثار الآمال في أن يحمل أيضاً المفتاح لتوجيه البشر نحو حياة جيدة. أصبح علم النفس والأعصاب مصدراً رئيسياً للنصائح الحياتية في وسائل الإعلام الشعبية. ولكن الفلاسفة أبدوا تحفظاتهم منذ فترة طويلة حول هذا التوجه العلمي لكيفية عيش الحياة. على سبيل المثال، أشار الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم في القرن الثامن عشر إلى أنه لا يمكن لأي قدر من الحقيقة أن يشرع القيمة، سواء كانت أخلاقية أو غير ذلك. لا يمكنك أن تشتق ما يجب أن يكون مما هو كائن. ولكن هناك موقفاً آخر، يبدو أكثر تطرفاً، تم التعبير عنه في الفلسفة الغربية بقوة بواسطة كيركجور، وفي الأدب بواسطة دوستويفسكي - وهما مفكران ملهمان دينياً - وهو أن تجربتنا في الحياة مهمة بشكل يفوق الوصف بحيث لا يمكن لأي فهم موضوعي للعالم أن يعبر عنها.

إدعى فيتجنشتاين، في رسالة مشهورة إلى لودفيج فون فيكر، ناشر "التراكتاتوس"، أن "الهدف الأساسي من الكتاب هو إظهار أن المهم يكمن في ما لا يمكن التعبير عنه" بلغة علمية. لنفرض أن هناك كائناً فائق الذكاء - في تحريف لحجة المعرفة[2] التي طرحها فرانك جاكسون - يفتقر إلى أي شعور أو خبرة، وهو مخلوق ذو تفكير خالص. يمكن لمثل هذا المخلوق، على سبيل المثال، أن يعرف كل شيء عن الدماغ، وحتى كل شيء عن العالم بأكمله، يعرف كل تلك الأمور من الناحية العلمية؛ لكنه لا يعرف شيئاً عن أهمية الإنسان.

يرى هذا الخط الفكري أن أهمية الإنسان تأتي من التجربة الذاتية، وأن البشر لا يمكنهم أن يزدهروا دون التوجه نحو التجربة الذاتية لحياتهم والتعامل معها، وأن التوجه الموضوعي المفاهيمي السائد للنفس، في واقع الأمر، يقلل من الرفاهية. وكما قال كيركجور: "إن العلم والدراسة الأكاديمية يريدان أن يعلماننا أن الطريق الصحيح هو أن نكون موضوعيين، بينما تعلمنا المسيحية أن الطريق هو أن نصبح ذاتيين، أن نصبح ذواتٍ.

العلم هو أفضل طريقة متوفرة لدينا للتعامل مع العالم بموضوعية. لكن في الواقع، ليس العلم في حد ذاته هو المشكلة، حسب وجهة النظر الذاتية. المشكلة هي إضفاء الطابع الموضوعي على الأمور بأي شكل من الأشكال. فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء أن يؤطر قراره على أسس موضوعية. يمكن للمرء أن يقرر خيارات مستقبله المهني من خلال مقارنة الاختلافات في أعباء العمل والمكانة والأجور والمزايا بين، على سبيل المثال، العمل في شركة تكنولوجيا متقدمة مقابل العمل في استوديو في هوليوود. غالباً ما يتم تشجيعنا على اتخاذ الخيارات من خلال تأطيرها بهذه الطريقة. ولكن، بدلاً من ذلك، قد يحاول المرء تأطير القرار بشكل أكبر من خلال تخيل ما قد يكون عليه العمل في أي من هاتين المهنتين؛ في هذه الحالة، يحتاج المرء إلى التحلي بالصبر للخوض في التجربة لفترة كافية حتى تظهر مشاعره تجاه أي من الخيارين. بعبارة أخرى، يمكن للمرء أن يدرس الأمور بشكل ذاتي.

وهذا بالطبع ادعاء فجّ. فنحن نادراً ما ندرس قراراتنا بشكل موضوعي بحت أو ذاتي بحت. وهناك حدود ضمنية لعملية اتخاذ القرار الذاتي. فكما قالت الفيلسوفة لوري بول[3]، فإننا لسنا حتى في وضع يسمح لنا بتخيل كيف ستكون حياتنا بعد اتخاذ قرار مصيري.

خلاصة القول أن ما يريد كيركجور أن يلفت الانتباه إليه هو دفع المجتمع بشكل منتظم نحو المزيد من الموضوعية، وتقليل التعامل مع الذاتية، مع ما يسمى - بشكل ساخر في بعض الأحيان - بالانطواء على الداخل. هناك ميل أقل لدى البشر المعاصرين للعيش منغمسين تماماً في الحياة، وتجربتها، وهناك ميل أكثر في الغالب إلى الانشغال بتجريداتها، بكل الطرق التي تؤطر بها ثقافتنا وجودنا كأفراد، ديمقراطيين وجمهوريين، رجال ونساء، فئة الواحد في المائة، عمال، مستهلكين، وهلم جراً. وهنا تكمن المشكلة نتيجة لذلك: فعندما نصبح أقل ذاتية، فإننا نصبح أكثر عزلة عن مصادر المعنى والقيمة.

III

لا يتعين علينا أن نتفق مع رفض كيركجور العنيد والعدائي للموضوعية والفكر الموضوعي حتى نستمر في النظر في ما يريد قوله حول تعزيز الذاتية، لأن هذا هو الموضع الذي تكمن فيه أفكاره الرئيسية. فماذا عن حثه على أن نصبح ذاتيين؟ لماذا هناك حاجة لذلك؟ أليس صحيحاً أننا بالفعل كذلك، نظراً لتجربتنا في الحياة؟ يبدو أنه لا يمكن للمرء أن يفشل في أن يكون ذاتاً، وأن يكون ذاتياً. ومع ذلك، كما يشير كيركجور، يمكن للعقل أن يهرب من ذاتيته؛ فبدلاً من العيش في حضور التجربة الذاتية، يمكن للمرء أن يهرب إلى الاغتراب؛ إلى التنظير حول الاحتياجات والأهداف والسعادة، والعيش بمبادئ مجردة ومقاييس موضوعية. وكما قال فرويد، هناك طرق مختلفة للقيام بذلك: عن طريق كبت التجربة، والانفصال عنها، وتخديرها، والابتعاد عنها.

في أغلب الأحيان، ندير ظهورنا للذاتية هرباُ من الألم. فمعاناة الفرد أو معاناة الآخرين قد تصبح محتملة، كما يأمل المرء، عندما يتراجع خطوة إلى الوراء وينظر إليها بموضوعية ومفاهيمية وتجريدية. وعندما يتعلق الأمر بشيء هائل مثل المحرقة، لا يمكن لعقل المرء إلا أن يصبح مخدراً بسبب حجمها الهائل. كيف يمكن للمرء أن يشعر بآلام كل هؤلاء الناس، ويتعاطف مع الملايين؟ وبدلاً من ذلك، يُترك المرء مع "الحقائق" المتمثلة بالأرقام.

إن مقاربة "ابن شاول" لموضوعه المذهل تحاكي حتمية كيركجور. فهي لا تعطي الجمهور أي مساحة للابتعاد عن واقع شاول أو تحويله إلى تجريد للمعاناة أو البراءة أو الخير؛ لا يصور الفيلم قصة المحرقة بطريقة عامة من شأنها أن تشجع على التوهان في الرواية التاريخية. بل يسمح للمشاهدين بالشعور بها بشكل محسوس وإدراك المشاهد والأصوات التي تشكل التجربة الفردية. بهذه الطريقة، نجح الفيلم في تصوير ما قال العديد من النقاد إنه لا يمكن تصويره.

وقد حقق ذلك من خلال عدم السماح للمُشاهد بالخروج من المصيدة الدرامية، ومن خلال حثه على المشاركة، قدر الإمكان، في تخيل تجربة المحرقة. وكما يقول كيركجور في كتاب "إما أو"، "قد يعرف المرء شيئاً ما عدة مرات ويعترف به... ومع ذلك، فقط من خلال الحركات الداخلية العميقة، فقط من خلال مشاعر القلب التي لا توصف، يمكن لأول مرة أن تقتنع أن ما عرفته يخصك… لأن الحق الذي ينير هو وحده الحق بالنسبة لك."

وبالإضافة إلى توظيف المقاربة الذاتية بصرياً، يجعل نيميس من الذاتية أيضاً موضوعاً رئيساً للفيلم. فهو يصور فقدان الذاتية على المستوى الاجتماعي الأوسع، كما يصورها على مستوى الفرد. هذا الارتباط المزدوج للذاتية هو ما يجعل الفيلم مؤثراً للغاية.

إن معسكر الموت هو نقطة النهاية العبثية للتفكير التكنولوجي، ولتشييء البشر. الأنظمة الشمولية في مختلف أنحاء العالم تعرف قيمة الذاتية وقوتها، ولهذا السبب تعمل جاهدة على تدميرها. يوصف اليهود القتلى في الفيلم بأنهم "قطع" من قبل المسؤولين في المعسكر الألماني. ويُحرم الضحايا من اعتبارهم ذواتٍ، فهم مجرد أشياء مادية يجب التعامل معها. في هذا العالم الذي يتسم بالموضوعية الميكانيكية، تعتبر الوحشية الصناعية النازية أمراً طبيعياً تماماً. أي فرد يخالف تعريفها للسلوك الصحيح لن يجد سوى ضميره الخاص ليعتمد عليه.

إيمري كيرتيش، الحائز على جائزة نوبل للآداب عن روايته التي تناولت سيرته الذاتية عن صبي مجري أُخذ إلى أوشفيتز، أشار إلى ذلك بوضوح في خطاب استلامه الجائزة عندما وصف تجربة مهمة ساهمت في كتابة الرواية: "كانت التجربة تدور حول العزلة، حياة أكثر صعوبة... الحاجة إلى الخروج من الحشود المبهرة، من التاريخ، وهو ما يجعلك بلا وجه ولا مصير."

وعلى مستوى أعمق، فإن ذاتية البطل هي الموضوع الرئيسي للفيلم، حيث يستعيد شاول روحه من خلال لقائه بالصبي. في اللحظة التي يشهد فيها شاول مقتل الصبي، يصبح - بتعبير كيركجور الجميل - واحداً من فرسان الإيمان، شخصاً قطع التزاماً، ويمكنه أن يتابعه بشغف، كما لو كان مضموناً أكثر من أي شيء آخر، حتى في مواجهة صعوبات الحياة القاسية. أخيراً، أصبح شاول قادراً أن يعيش تجربة الموت والدمار من حوله من خلال التزامه مع هذا الصبي الميت؛ حيث نجد أن الفيلم يدفع المشاهدين إلى الارتباط بالمحرقة على أنها حقيقية، من خلال خلق علاقة التزام مع هذا البطل القريب من الموت. فعند رؤيته، ستتذكر، بطريقة أقرب إلى الهذيان، أنك كنت هناك في جزء صغير من جسدك. إنه الواجب الذي خلقته المحرقة، كما يقترح الفيلم. إنه النظير المظلم لضرورة أن يقوم اليهود بإحياء تجربة التحرر من العبودية إلى الحرية في عيد الفصح من كل عام.

وفي الوقت نفسه الذي يصور فيه تحول شاول، فإن فيلم "ابن شاول" يوظف أيضاً ذاتية المُشاهد بشكل مباشر من خلال أسلوبه وطريقة عرضه؛ إنجازه هو أنه يجسد الديناميكية التي هي صلب موضوعه. أطلق كيركجور على مثل هذا التواصل - وهو النوع الوحيد الذي اعتقد أنه مناسب للمفكر الذاتي - اسم "الانعكاس المزدوج". لقد اعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها حماية مصداقية الرسالة، الطريقة الوحيدة لتجنب أن تكون مجرد صوت للذاتية يشبه منادي المدينة (المؤذن). بهذه الطريقة، يجمع "ابن شاول" الفن مع الفلسفة ليكون كلا الأمرين: إنه يجعل الباطن مرئياً. ومن خلال تصويره للموت والدمار، يذكرنا كيف نعيش.

Likes
16
Views
596
[1] كاتالين بالوغ أستاذة مشاركة في الفلسفة في جامعة روتجرز-نيوآرك. تكتب عن طبيعة العقل والوعي والذات.
[2] حجة المعرفة (المعروفة أيضاً باسم غرفة ماري) هي تجربة فكرية اقترحها فرانك جاكسون في مقال نشره عام 1982 بعنوان ”Epiphenomenal Qualia“.
[3] حسب هذا المقال الذي كتبه عالم النفس بول بلوم في 2015.
Source: ‘Son of Saul,’ Kierkegaard and the Holocaust
By Katalin Balog