يوتوبيا لعصر ديستوبي - Wonder Essays

قبل 500 عام صاغ الفيلسوف الإنساني والسياسي الإنجليزي توماس مور مصطلح يوتوبيا عندما جمع بين الكلمتين اليونانيتين (ليس) و (مكان).

يوتوبيا لعصر ديستوبي
The Garden of Earthly Delights
كتابة: إيسبين هامر[1] ترجمة: مشاري المشاري
26 يونيو 2017

قبل 500 عام صاغ الفيلسوف الإنساني والسياسي الإنجليزي توماس مور مصطلح "يوتوبيا" (utopia) عندما جمع بين الكلمتين اليونانيتين "ou" (ليس) و "topos" (مكان)، حيث تصور مكاناً غير موجود أو حرفياً "لامكان". ومَن يعرف أسلوب مور في الكتابة سيجد لعبة لغوية أخرى، إذ يمكن أيضاً ملاحظة التشابه في نطق كلمة "utopia" مع كلمة "eu-topia" التي تعني في اليونانية "المكان السعيد". ربما قصد مور أن السعادة شيء لا وجود له إلا في الخيال. ومع ذلك فإن تخيل السعادة، كما فعل الفلاسفة والفنانون والسياسيون منذ القِدَم، ليس عديم الجدوى.

مما لا شك فيه أن مور كان مهرجاً. فروايته الخيالية "يوتوبيا" التي تتحدث عن رحلة إلى جزيرة الوفرة والمساواة، ترويها شخصية اسمها هيثلوداي، وهذا الاسم مثال آخر على أسلوب مور المرح في الجمع بين الكلمات اليونانية، فهو يدل على شيء مثل "بائع الهراء". على الرغم من أن مور كان يبدو مغرماً جداً باللامكان الخاص به، إلا أنه في بعض الأحيان كان يقاطع السرد الروائي بالتحذير من رفض سكان الجزيرة للملكية الخاصة. بما أنه عاش في ظل حكم هنري الثامن الاستبدادي، وكونه شخصية اجتماعية بارزة، فمن المحتمل أن مور لم يرغب في هزّ القارب بشدة.

ومع ذلك، كان هذا الفعل على وجه التحديد - هزّ القارب - هو الهدف الأساسي لليوتوبيات العظيمة التي شكلت الثقافة الغربية. فهو يحرك ويغذي التفكير التقدمي، ويوفر توجهاً وشعوراُ بمعنى النضال من أجل التغيير الاجتماعي والتحرر. ومن وجهة نظر الخيال اليوتوبي، فإن التاريخ - ذلك النهر المتدفق من الأحداث الصغيرة التي تحدث بشكل عرضي كما يبدو - قد اكتسب معنى، وأصبح حركة منتظمة نحو الحالة المطلوبة التي يفترض أنها قادرة على تبرير كل ما سبق من كفاح ومعاناة.

يمكن لفكرة اليوتوبيا أن تكون حالمة على طريقة جون لينون في أغنية "Imagine" (تخيل). ومع ذلك، فهي قادرة أيضاً على التدخل وإحداث تحول ملموس.

تأتي اليوتوبيا في أشكال مختلفة. يوتوبيا الرغبة، كما في لوحة هيرونيموس بوس "حديقة المباهج الأرضية"[2]، تركز على السعادة، وتربطها بإشباع الاحتياجات. مثل هذه اليوتوبيا، التي تتطلب التخفيف الكامل من الألم وأحياناً قدراً كبيراً من اللذة والمتعة، تميل، على الأقل في العصر الحديث، إلى الاعتماد على التكنولوجيا. اليوتوبيا التكنولوجية ترى أن الأمراض الاجتماعية والجسدية والبيئية تتطلب حلولاً تكنولوجية. لقد بتنا نعرف مثل هذه الحلول جيداً: المشاريع الطموحة لتخطيط المدن والروبوتات، فضلاً عن أحلام التوسع الكوني والخلود.

ربما تكون يوتوبيا العدالة مألوفة أكثر من الشكلين السابقين. فهذه اليوتوبيا، التي تتطلب عادةً تضحيات شخصية عظيمة، تدعو إلى القضاء على كل أشكال الظلم الاجتماعي. مع أن الثورة الفرنسية نالت نصيبها العادل من مثل هذه الرؤى، إلا أنها بلغت ذروتها في السياسة الماركسية في القرن العشرين. على الرغم من رفضه الشخصي لفكرة اليوتوبيا، أصبح لينين، الذي اعتلى منصته وهو يخاطب العمال في أكتوبر 1917، تجسيداً لجميع أشكال اليوتوبيا الثلاثة. في قلب الرؤية السوفييتية كانت هناك دائماً تلك العيون المتقدة التي تحدق بعزم وبثقة كاملة نحو الأرض الموعودة.

اليوم، يبدو أن جذوة اليوتوبيا قد انطفأت تقريباً. فلا معنى ليوتوبيا الرغبة في عالم يجتاحه الترفيه المبتذل، والنزعة الاستهلاكية الجامحة، والسلوك النرجسي. أما اليوتوبيا التكنولوجية فقد أصبحت الآن أقل إثارة للإعجاب من أي وقت مضى، حيث أدركنا تمام الإدراك - بعد هيروشيما وتشرنوبيل - الإمكانات التدميرية للتكنولوجيا. وحتى الإنترنت، التي ربما كانت أحدث أمل للتفاؤل التكنولوجي، تبين أن لها عدداً من العواقب الكارثية المحتملة، التي من بينها التجاهل الواسع النطاق للحقيقة والموضوعية، فضلاً عن الزيادة الهائلة في القدرة على المراقبة. ويبدو أن يوتوبيا العدالة قد نُزعت أحشاؤها إلى حد بعيد بسبب أنظمة الحكم الشمولية التي ظهرت في القرن العشرين. فبعد أرخبيل الغولاغ[3]، وحقول القتل والثورة الثقافية للخمير الحمر، تبدو هذه اليوتوبيا ميتة على المستويين الفلسفي والسياسي.

المفارقة الكبرى في جميع أشكال اليوتوبيا لا يمكن أن تخطئها العين. فهي تقول شيئاً واحداً، ولكن عندما نحاول فهمها، نجد أنها تشير ضمناً إلى شيء مختلف تماماً. فهي غالباً ما تتطلب مستوى عالياً من الكمال في كل ما يتعلق بالإنسان بحيث تبدو عدوانية ومدمرة في نهاية المطاف. إن رفضها للماضي وللممارسات الراسخة مرهون برؤيتها الخاصة للوحشية.

لم يتعرض الخيال اليوتوبي لصدمة بسبب إخفاقاته فحسب، بل كان عليه أيضاً أن يواجه شكلين أساسيين من أشكال الديستوبيا (المأساوية) في عصرنا الراهن: الانهيار البيئي والحرب النووية الحرارية. يزدهر الخيال اليوتوبي في مواجهة التحديات. ولكن هذه ليست تحديات، بل سيناريوهات واقعية مخيفة للدمار التام والقضاء النهائي على الجنس البشري. أضف إلى ذلك الطبيعة المناهضة بشدة لفكرة اليوتوبيا التي تتسم بها الحركات اليمينية التي ظهرت في الولايات المتحدة وأوروبا والتي تعارض أي شكل من أشكال اليوتوبيا الهادفة المحتمل قيامها بالفعل. يبدو أننا، في الأمور الاجتماعية والسياسية، محكوم علينا، إن لم يكن بالسخرية، فعلى الأقل بشيء من برودة الأعصاب.

قد تدعو الأفكار المناهضة لليوتوبيا، كما هو الحال في الليبرالية الحديثة، إلى تغيير تدريجي مسيطر عليه. فالمهمة الرئيسية للحكومة، حسب ما انتهى إليه كلام باراك أوباما، هي أن تتجنب القيام بأشياء غبية. ومع ذلك، فإن مناهضة اليوتوبيا قد تصبح رجعية أيضاً وتدعونا إلى العودة إلى ماضٍ مثالي مهما كان ذلك مكلفاً. في مثل هذه الحالات، يتم استبدال السرد اليوتوبي بالأسطورة. وفي حين أن السرد اليوتوبي عالمي وموجه نحو المستقبل، فإن الأسطورة مخصصة وموجهة نحو الخلف. تهدف الأساطير إلى سرد قصصنا وأصولنا والأمور التي تهمنا حقاً. والإقصاء جزء من طبيعة هذه الأساطير.

هل يمكن إنقاذ اليوتوبيا؟ هل يجب إنقاذها؟ بالنسبة لكثير من الناس فإن الإجابة على كلا السؤالين هي لا مدوية.

ومع ذلك، هناك أسباب تجعلنا نعتقد أن المجتمع الحديث لا يمكنه الاستغناء عن الوعي اليوتوبي. أن تكون حديثاً يعني أن تكون موجهاً نحو المستقبل، وأن تكون منفتحاً على التغيير، بما في ذلك التغيير الجذري، عندما تستدعي الحاجة. الرغبة في الاستخفاف بكل اليقينيات وأساليب الحياة الراسخة، جعل اليوتوبيا الكلاسيكية رائعة لدرجة المبالغة، وعقلانية للغاية، حتى أصبحت في النهاية باردة جداً. نحن بحاجة إلى القدرة على النظر إلى ما هو أبعد من الحاضر. ولكننا نحتاج أيضاً إلى إصرار مور على المرح. بمجرد أن تتجسد اليوتوبيا في الإيديولوجيات، فإنها تصبح خطيرة، بل مميتة. فلماذا لا نفكر فيها كتجربة فكرية؟ فهي توجهنا نحو اتجاه معين. بل إنها قد توفر لنا نوعاً من الأهداف لكفاحنا كمواطنين وكائنات سياسية.

نحتاج أيضاً إلى أن نكون أكثر حذراً بشأن ما قد يشغل خيالنا اليوتوبي. من وجهة نظري، لم يبق اليوم إلا مرشح واحد لشغل هذا الخيال. هذا المرشح هو الطبيعة وعلاقتنا بها. جزيرة مور جنة أرضية تنعم بالوفرة. لن يؤدي أي قدر من التدخل البشري إلى استنفاذ مواردها على الإطلاق. ولكننا نعرف أكثر من ذلك. فمع تغير المناخ بسرعة ووصول معدل انقراض أنواع الكائنات الحية إلى مستويات غير مسبوقة، فإننا بحاجة ماسة إلى تصور طرق بديلة للعيش على هذا الكوكب.

هل مجتمعاتنا الصناعية الرأسمالية قادرة على إحداث التغييرات المطلوبة؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فبأي اتجاه يجب أن نسير؟ هذا سؤال يوتوبي بامتياز. إنه عميق وعالمي. ومع ذلك، فهو لا يدعو إلى القطيعة مع الماضي ولا إلى الإندفاع المتهور نحو المستقبل. يزعم المفكر الألماني إرنست بلوخ أن كل اليوتوبيات تعبر في خلاصتها عن التوق إلى المصالحة مع ما اغترب المرء عنه. فهي تخبرنا كيف نعود إلى موطننا. إن يوتوبيا الطبيعة في القرن الحادي والعشرين من شأنها أن تفعل ذلك. فهي تذكرنا بأننا ننتمي إلى الطبيعة، وأننا نعتمد عليها، وأن المزيد من الاغتراب عنها سيكون على مسؤوليتنا الخاصة.

Likes
26
Views
748
[1] إيسبين هامر أستاذ الفلسفة في جامعة تمبل ومؤلف كتاب ”حداثة أدورنو: الفن والتجربة والكارثة“.
[2] ”حديقة المباهج الأرضية“ أشهر لوحة للرسام الهولندي هيرونيموس بوس، رسمها بين عامي 1490 و 1510.
[3] ”أرخبيل الغولاغ“ رواية للكاتب الروسي والمعارض السوفييتي ألكسندر سولجينيتسن، كتبها بين عامي 1958 و 1968.
Source: A Utopia for a Dystopian Age
By Espen Hammer