آثار ورقية - Wonder Essays

حصل هوسرل على حياة أخروية ثرية بفضل أرشيفه الذي اعتني به جيداً، بينما تشوه أرشيف نيتشه بسبب سوء تصرف شقيقته.

آثار ورقية
حصل هوسرل على حياة أخروية ثرية بفضل أرشيفه الذي اعتني به جيداً، بينما تشوه أرشيف نيتشه بسبب سوء تصرف شقيقته.
Friedrich Nietzsche’s Notebook
دفتر ملاحظات فريدريك نيتشه الذي كتب فيه جملة "لقد نسيت مظلتي."
كتابة: بيتر سالمون[1] ترجمة: مشاري المشاري
25 يونيو 2024
"أشعر بخوف شديد من أن أُعلَن مقدَساً في يوم من الأيام ..."
– من كتاب "هو ذا الإنسان" (1888-1908) لفريدريك نيتشه

في صباح يوم 24 سبتمبر 1938، وصل قسيس فرنسيسكاني يُدعى هيرمان فان بريدا إلى السفارة البلجيكية في برلين، ألمانيا، حاملاً ثلاث حقائب كبيرة ممتلئة. كان لديه موعد مع الفايكاونت ج بيريير، سكرتير السفير البلجيكي. إلتقيا في الساعة 11 صباحاً، وسلم فان بريدا الحقائب، مع تأكيد بيريير له أنها سترسل إلى بلجيكا ضمن إجراءات أمنية مشددة، ولن تقوم السلطات الألمانية بتفتيشها، وفقاً للقواعد الدولية المتعلقة بالوثائق الدبلوماسية.

لكن هذه لم تكن أوراقاً عادية. كانت الحقائب تحتوي على أرشيف الفيلسوف الألماني الكبير إدموند هوسرل.

كان هوسرل، مؤسس الفينومينولوجيا (المدرسة الظاهراتية)، قد توفي قبل خمسة أشهر. لقد اعتُبر في السابق واحداً من أبرز الأصوات الثقافية في الفلسفة الألمانية، لكنه في سنواته الأخيرة فقد منصبه كأستاذ، ومُنع من دخول جامعة فرايبورغ، وفقد العديد من أصدقائه، بما في ذلك صديقه وتلميذه المقرب، مارتن هايدجر. وعلى الرغم من اعتناقه المذهب اللوثري قبل خمسين عاماً، فقد ولد هوسرل يهودياً، وكانت القوانين العنصرية التي أقرها القوميون الاشتراكيون في عام 1933 سبباً في تدمير حياته، مثل كثيرين غيره.

بقيت شهرة هوسرل وتقديره عاليين خارج ألمانيا، وكان الأب فان بريدا قد درس أعماله في الجامعة الكاثوليكية في لوفين في بلجيكا. سافر فان بريدا إلى فرايبورغ لدراسة وتصنيف كتابات هوسرل غير المنشورة التي ذكرها الفيلسوف مراراً في كتبه المنشورة. لم تعد هذه الكتابات محفوظة في الجامعة، بل قام طلاب هوسرل وأرملته مالفين بنقلها إلى منزل الأسرة.

Herman van Breda
هيرمان فان بريدا

لقد ذهل فان بريدا حين وجد نحو 40,000 صفحة من المواد المكتوبة بخط يد هوسرل بطريقة اخنزالية، فضلاً عن نحو 10,000 صفحة من النصوص المطبوعة أو المكتوبة بخط اليد. وكانت كل هذه الوثائق في خطر – حيث بدأت السلطات النازية برنامجها لحرق الأعمال الفنية والأدبية "المنحطة" (التي تعني في كثير من الأحيان "اليهودية")، ولو وقع الأرشيف في أيديهم فإن تدميره سيكون أمراً لا مفر منه.

في البداية، حاول فان بريدا إخراج الأوراق من البلاد بالاستعانة بمساعدة الراهبات – حيث أخذ الأوراق إلى دير في كونستانز، التي تقع على الحدود مع سويسرا، على أمل أن تتمكن الراهبات من حملها إلى بر الأمان في مجموعات صغيرة في كل مرة. ولكن سرعان ما اتضح أن ذلك كان خطيراً للغاية، فإذا أغلقت الحدود في منتصف العملية، فإن الأوراق ستتفرق، ربما إلى الأبد. لذا أعاد فان بريدا الأوراق وأودعها في دير في برلين-بانكوف – وهي خطوة محفوفة بالمخاطر لأن الأديرة كانت تخضع للتفتيش آنذاك.

في تلك اللحظة خطرت له فكرة إرسالها عبر القنوات الدبلوماسية، وسرعان ما قابل الفايكاونت بيرييه. لقد ترك معه الأعمال الأصلية المكتوبة بخط اليد – وتمكن الدبلوماسي البلجيكي من نقلها إلى مكان آمن – بينما وضع فان بريدا الأعمال التي نسخها مساعدو هوسرل في أمتعته الخاصة ليعود بها إلى لوفين. ولحسن الحظ، لم تفنح السلطات حقيبته.

أمضى فان بريدا بقية حياته في تأسيس أرشيف هوسرل والمساعدة في تنظيمه والإشراف على نسخ الأعمال الكاملة لمساعدي هوسرل. لقد أصبح هذا الأرشيف واحداً من أهم الأرشيفات الفلسفية في العالم، وقد بدأ العديد من الفلاسفة الفرنسيين حياتهم المهنية باستكشافه واستخدام هذه الأعمال كنقطة انطلاق – بما في ذلك جاك دريدا، وبول ريكور، وموريس ميرلو بونتي. كل هذا بفضل شجاعة أحد القساوسة البلجيكيين.

الآن، يعتبر دخول أرشيف هوسرل بمثابة تكريم: فهو مفهرس ومصنف ومزود بالمراجع ومترجم – حيث تبدو القِطع وكأنها وحدة كاملة متماسكة. وهي محفوظة في مكتبة جيدة الإضاءة والتهوية، مما يجعل من الصعب التوفيق بين مصيرها الحالي وحالتها عندما كانت محشوة في تلك الحقائب. لقد أصبح الأرشيف الآن معهداً لأبحاث الفينومينولوجيا، ويضم موظفين مبتهجين ومتعاونين، قادرين في لحظات على وضع ورقة صغيرة بين يديك كان من الممكن أن تختفي في طي النسيان إلى الأبد بسبب هبة ريح أو تنفيذ أحد النازيين للأوامر.

هذا يكشف عن إحدى السمات الأساسية للأرشيف. فحتى يكون الأرشيف اسماً على مسمى لا بد أن تكون المادة عامة – إذ لا وجود لأرشيف خاص. فهو يقع في مكان، مكان خارج الشخص الذي يؤرخ له. بهذه الطريقة، يكون الأرشيف دائماً معرضاً للتهديد بالدمار، ومعه الشخص أو الوقت الذي يحتفى به. وهذا ما أدركته الحكومات الشمولية بكل أطيافها – حيث تتحدى عبارة الكاتب الروسي ميخائيل بولغاكوف[2] "المخطوطات لا تحترق" – فهي تحترق، ومعها قرابين من الأرواح، وطرق الوجود، والثقافات.

وهكذا، بالنسبة لزائر أرشيف هوسرل في لوفين، سواء كانت الزيارة للدراسة أو لمجرد التصفح، ومهما كانت البيئة المحيطة جيدة الإضاءة والتهوية، فإن مواجهة الأوراق التي كتب عليها هوسرل، أو فكر بها، أو لمسها، هي بمثابة مواجهة موت محتمل، ورؤية مدى نحافة الخط الفاصل بين الوجود واللاوجود.

ما هو الأرشيف؟ وعلى وجه الخصوص، ما هو الأرشيف عندما يتعلق الأمر بكاتب أو فيلسوف أو مفكر؟ من المؤكد أن نتوقع أن يحتوي الأرشيف على أعمال ذلك المفكر المنشورة – فهذه الأعمال، في نهاية المطاف، مخصصة للاستهلاك العام، وهي مكتوبة بهدف الوصول إلى جمهور معين. ولكن ماذا عن بقية الأعمال؟ كما هو معروف، فإن ما ينشر غالباً لا يشمل كل أعمال مفكر بعينه – فهناك رسائل ومذكرات، ومسودات أولى (وربما عشرات المسودات) من القصائد والروايات والأوراق الفلسفية. وهناك حواشي – ملاحظات كتبها مفكرون عظماء على هوامش أعمال كتاب آخرين (الملاحظات التي كتبها الشاعر لورد بايرون على هوامش كتاب "الشخصية الأدبية للرجال العباقرة" لإسحاق ديسرائيلي أكثر شهرة من الكتاب نفسه).

وهناك أيضاً كتابات يصعب تصنيفها: ملاحظات للكاتب نفسه، وملاحظات للآخرين، وملاحظات لمن لا يعرفهم أحد، وقوائم تسوق، ومجرد ملاحظات يكتبتها الكاتب بخط يده وتظل محيرة للباحثين في المستقبل. فهل ينبغي أن تكون هذه أيضاً جزءاً من الأرشيف؟ أين نرسم الحدود؟

بعض الكتاب معروفون بقسوتهم الشديدة في التعامل مع خربشاتهم غير المنشورة – كان مارسيل بروست سعيداً جداً لرؤية 1.3 مليون كلمة التي شكلت كتابه "البحث عن الزمن الضائع" (1913-1927) منشورة، لكنه أصر على حرق دفاتر ملاحظاته.

الكاتب التشيكي فرانز كافكا ذهب أبعد من ذلك، حيث طلب من صديقه ماكس برود أن يحرق كل ما كتبه عند وفاته. وقد اختار برود ألا يفعل ذلك، وإلا لما دخل كافكا التاريخ. في الواقع، نشأت حوله صناعة كاملة باسم كافكا، حتى صرنا الآن نعرف بالتفصيل المجهري عن حياة الشخص الذي أراد أن يبقى منسياً – وهو الموقف الذي سخر منه آلان بينيت[3] في مسرحيته "قضيب كافكا" (1986)، حيث يعود الكاتب (كافكا) إلى الحياة ليجد أنه حتى حجم عضوه ليس معروفاً فحسب، بل هو موضع تدقيق من قبل المنظرين الثقافيين.

بعض الكُتاب يشعرون براحة أكبر إزاء حفظ أرشيفاتهم وتخزينها وتقييمها، بل ويشجعون على ذلك. وتبني الجامعات والمتاحف أقساماً خاصة لأعمال الكُتاب العظماء باعتبارها مراجع للدراسات. وعندما يبيع المرء أرشيفه – الرسائل والمسودات والدفاتر، بل وحتى أجهزة الكمبيوتر المحمولة في أيامنا هذه – أو يهديه إلى مؤسسة ما، فإن هذا الأمر يُنظَر إليه باعتباره وسيلة ليس فقط لحفظ الأرشيف للأجيال القادمة، بل لرسم صورة للمرء (بعد وفاته). وفي كثير من الحالات، تبدو "النُسخ غير المحررة" من الذات الأدبية كأنها محررة بشكل دقيق يضاهي دقة تحرير النُسخ التي كتبت علناً للمجال العام.

وهكذا، فإن إنشاء الأرشيف، كما يزعم دريدا، ليس مجرد عمل أدبي (أو فلسفي) بل هو عمل سياسي. وما يُضم إلى الأرشيف أو يُستبعد منه هو وسيلة لتثبيت الفراشة الخاصة بمجموعة أعمال كاتب ما، وتقديمها بطريقة معينة، وربما لغرض معين.

أحد أشهر الأمثلة على هذا ما حدث لأرشيف فيلسوف ألماني آخر، هو فريدريك نيتشه. فقد ولد نيتشه في عام 1844، ولا يزال واحداً من أكثر المفكرين إثارة للجدل على مر العصور، حيث دعا إلى "إعادة تقييم كل القيم". يزعم نيتشه أن كل الأخلاق مبنية على أسس اجتماعية، ولا أساس لها في "الحقيقة". والأسوأ من ذلك أن الأخلاق الغربية التقليدية، التي بنيت حول المسيحية، هي كما أسماها "أخلاق العبيد"، وليست أخلاق البشر الأصحاء. ولم يكن من قبيل الصدفة قوله: "أنا لست إنساناً، أنا ديناميت".

Friedrich Nietzsche painted by Curt Stoeving
فريدريك نيتشه كما رسمه كورت ستوفينج في 1894

لقد ابتلي نيتشه دائماً باعتلال صحته، بما في ذلك الصداع النصفي الحاد وربما مرض الزهري، وأصيب بانهيار عصبي في عام 1889 بعد وقت قصير من عيد ميلاده الرابع والأربعين. لذلك أمضى السنوات الإحدى عشرة الأخيرة من حياته تحت الرعاية، أولاً في مصحة علاجية، ثم على يد والدته، وأخيراً على يد شقيقته الصغرى إليزابيث، التي استقبلته في عام 1897 في منزلها فيلا سيلبربليك في فايمار، والتي تولت أيضاً مسؤولية أرشيفه. وكان هذا القرار بالغ الأهمية.

كانت العلاقة بين فريدريك وإليزابيث وثيقة طيلة حياتهما، ولكن هذا تغير في عام 1885 عندما تزوجت من برنهارد فورستر. كان فورستر شخصية قيادية في أقصى اليمين الألماني ومعادياً بارزاً للسامية، حيث وصف اليهود بأنهم "طفيليات على الجسم الألماني". أسس هو وإليزابيث "مجتمعاً مثالياً" في باراجواي، أطلقا عليه اسم ألمانيا الجديدة حيث طبقا أفكارهما "اليوتوبية" حول تفوق العرق الآري. في معتقداتهما، كانا من النوع النازي البدائي الذي سيستعين به هتلر بعد فترة وجيزة.

لقد فشل هذا المجتمع – حيث لم يتمكن معظم هذه "الكائنات المتفوقة" من التعامل مع البيئة القاسية التي وجدوا أنفسهم فيها، وماتوا من الجوع والمرض – مما أدى إلى انتحار فورستر في عام 1889. استمرت إليزابيث في إدارة المستعمرة حتى عام 1893، عندما عادت إلى ألمانيا لتجد أن شقيقها لم يعد عاقلاً.

بحلول ذلك الوقت، وبعد فشل نيتشه في بيع أي كتاب تقريباً طيلة حياته، بدأت شهرته تزداد دون علمه. وبدأت أعماله المنشورة تعود إلى المطابع، وكانت إليزابيث قادرة على الوصول إلى مخزون هائل من الأعمال غير المنشورة. فشرعت في تنظيمها – نسخها وتحريرها وترتيبها بشكل متماسك نوعاً ما.

Elisabeth Forster Nietzsche
إليزابيث فورستر نيتشه في 1910

في الفترة ما بين عامي 1894 و 1926، نشرت طبعة من عشرين مجلداً لأعمال شقيقها، والتي تضمنت أشهر إنتاجاتها، وهو كتاب "إرادة القوة". وقد كان هذا العنوان مستمداً من كتاب كان نيتشه يخطط لتأليفه في مرحلة ما، وأعلن عنه باعتباره أعظم أعماله – العمل الأخير الذي كان لينشره لولا "جنونه".

هذا العمل يتسم بالجرأة الحقيقية – إن لم تكن جرأة فريدريك، فهي بالتأكيد جرأة شقيقته. فمن خلال التحرير الانتقائي، تمكنت إليزابيث من جعل عمل شقيقها ليس مقبولاً لدى القراء اليمينيين المتطرفين فحسب، بل وأيضاً عملاً مؤيداً لهم. لم يكن نيتشه من النوع الذي يوفر هجماته ضد أي دين بعينه، ولكن إليزابيث حذفت شتائمه ضد الأديان الأخرى، ودفعت بشتائمه ضد اليهود إلى المقدمة. وكانت فكرة نيتشه عن الإنسان المتفوق – الإنسان المستقبلي الذي كان سيتخلص من الأخلاق المعاصرة – تلمح إلى شخصية الفوهرر وأتباعه، أي هتلر والعرق الآري النقي الذي كان يأمل في تكاثره.

زعم البعض أن إليزابيث كانت تريد حماية شقيقها من خلال جعل أفكاره مقبولة أكثر لدى القراء البيض المسيحيين مقارنة بما سيكون عليه الوضع لو لم تفعل ذلك. أو أن قيامها بتحرير أعمال شقيقها كان لأسباب أكثر شخصية – كانت تريد ببساطة أن تظهر مدى قربها منه. وبطبيعة الحال، لا يستطيع أحد أن يعرف ما كان يدور في رأسها. ولكن تأثير ذلك هو أن نيتشه أصبح "فيلسوفاً منزلياً" بالنسبة للنازيين (وهو الموقف الذي زاد الطين بلة بسبب الحرفين المدببين N و Z المشتركين في اسميهما). وقد انضمت إليزابيث نفسها إلى النازيين في عام 1930، كما قدم هتلر المساعدة لتمويل عمل أرشيف نيتشه. بل إنه حضر جنازة إليزابيث في عام 1935.

ظلت وصمة النازية المزعومة تلاحق نيتشه لسنوات عديدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. في عمله الرائع "كيف استعاد نيتشه شعبيته: قصة خلاص" (2022، الترجمة الإنجليزية 2024)، يلاحظ المؤرخ الثقافي الألماني فيليب فيلش أن أعمال نيتشه كانت تعتبر مرفوضة تماماً بالنسبة للعديد من الفلاسفة، وخاصة اليساريين منهم – ففي نهاية المطاف، ألم يقدم هتلر "الأعمال الكاملة لنيتشه" كهدية لموسوليني في عيد ميلاده الستين؟ لا يسع المرء إلا أن يأمل، كما قال الفيلسوف يورجن هابرماس، إن أفكاره لم تعد "معدية" – بل كانت مرضا شفي العالم منه بهزيمة النازيين.

كان أرشيف نيتشه نفسه مخفياً في مكان آمن في ألمانيا الشرقية، حيث كانت أعماله محظورة. وفي ذلك الوقت، لم يكن أحد في الغرب يعرف بشكل مؤكد مكان الأرشيف – ولم يتبين إلا في وقت لاحق أنه قضى السنوات التي بين الحرب وعام 1961 يُنقل في صناديق خشبية لحراسته في مواقع عسكرية سوفييتية مختلفة، قبل أن يُلقى مرة أخرى خارج فيلا سيلبربليك، حيث كانت إليزابيث تعتني بشقيقها خلال السنوات القليلة الأخيرة من حياته.

ولدهشة الجميع، وقعت مهمة نسخ الأرشيف وتنظيمه على عاتق اثنين من العلماء الإيطاليين اليساريين: طالب الفلسفة الشاب مازينو مونتيناري، الذي أنجز عمله في فيلا سيلبربليك، ومعلمه ومرشده جورجيو كولي، الذي قام بجمع ومقارنة المواد التي استعادها مونتيناري.

كان حجم المواد هائلاً – حيث زاد عدد الصناديق الخشبية على 100 صندوق تحتوي، كما يقول فيلش، على:

مواد كثيرة لدرجة يصعب تصورها: نُسخ مبيضة وطبعات أولى من الكتب التي نشرها نيتشه بنفسه؛ ومخطوطات المحاضرات والأطروحات اللغوية أثناء عمله كأستاذ في بازل؛ ومَحافظ مليئة بالأوراق المتفرقة التي احتوت على أفكار ومفاهيم ومقتطفات؛ بالإضافة إلى دفاتر الملاحظات التي استخدمها لتسجيل دفقات فكره.

بلغ مجموع القِطع غير المنشورة – وهي نوع من المذكرات الفكرية، وإن كانت فوضوية – أكثر من 5,000 صفحة. وقد أوكلت إلى مونتيناري مهمة نسخ ما كتبه نيتشه بخط يده الفظيع المتسرع، والذي كان يستغرق أحياناً يوماً كاملاً لإنهاء صفحة واحدة. ونظراً لإدراك المنظمين التشوهات التي أحدثتها إليزابيث فورستر نيتشه، فقد أرادوا العودة إلى ما كتبه نيتشه بالفعل.

ولكن ما الذي كانوا يبحثون عنه؟ على حد تعبير مونتيناري، كانوا يبحثون عن "نيتشه الحقيقي" – الذي هو أكثر من مجرد نُسخة أصدق من تلك التي قدمتها شقيقته. لقد كانوا يتبعون حلم كل مؤرخ، وحلم كثير من القراء العاديين – في العثور على الكاتب أو المفكر الحقيقي وراء ما نشروه. إنه بحث عن نص أصلي، أصل تتطور منه الأفكار. لهذا السبب أحرق بروست دفاتر ملاحظاته – كانت نلك النُسخة من الأحداث والأفكار التي حولها إلى أدب، بمجرد الانتهاء منها، هي النُسخة "الحقيقية".

وفي حين أن مونتيناري وكولي ابتعدا عن عمل إليزابيث، فإن عملهما كان لايزال متمثلاً في مهمة الضم والاستبعاد – أي القِطع تنتمي إلى الأرشيف، وأيها لا تنتمي إليه؟ خذ على سبيل المثال القطعة التي كتب فيها بين علامتي اقتباس: "لقد نسيت مظلتي". فهل هذه جزء من أرشيف نيتشه؟ وإذا لم تكن كذلك، فلماذا؟ وإذا كانت كذلك، فلا يمكن أن يكون أي شيء – من قوائم الغسيل إلى دفتر اليوميات الذي يحدد مواعيد إخراج سلة النفايات – جزءاً من ذلك الأرشيف.

كان مونتيناري وكولي يشعران بوجود أسباب فلسفية معقولة لضم واستبعاد قِطع من الأرشيف، أو على الأقل أن قراراتهما يمكن الدفاع عنها. وكانت هذه الفكرة محل تحدٍ من طرفين غير متوقعين.

إذا كان نيتشه مكروهاً في معظم الدول الغربية، فإن مكانته ربما كانت في أدنى مستوياتها في فرنسا – فقد احتل النازيون البلاد، واتخذ العديد من مثقفيها بعد الحرب مواقف يسارية قوية في بلد صوت ثلث سكانه لصالح الشيوعية في عام 1946.

ولكن في عام 1964، وفي مؤتمر حول نيتشه في رويومون، وهو دير سيسترسي في شمال باريس، خرج مفكرون فرنسيون جدد، من أمثال جيل دولوز وميشيل فوكو، على فكرة "نيتشه الحقيقي" – أو أي شخص حقيقي، في هذا السياق. لقد كانت غرابة نيتشه وتناقضه على وجه التحديد هي التي جعلته المفكر الذي كان عليه. وأي شكل من أشكال الإقصاء يعتبر عملاً من أعمال العنف – من الذي أعطى أي شخص الحق في "تقرير" ما الذي كان "يعنيه نيتشه حقاً"، واستبعاد كل ما يعتبر غير ضروري أو غير متوافق مع هذا المعنى؟

لقد تبنى دريدا هذا الهجوم، ففي بحث نشره عام 1972 عن نيتشه سخر من النقد الأكاديمي المؤلم حول قطعة واحدة فقط من الأرشيف: وهي القطعة الذي كتب فيها: "لقد نسيت مظلتي". ما هي المعايير المحتملة التي قد تنطبق على ضم هذه القطعة؟ أو استبعادها؟ من المؤكد أن المعنى كان واضحاً كما يقول دريدا:

الجميع يعلم ما تعنيه عبارة "لقد نسيت مظلتي". لديّ مظلة. إنها ملكي. لكنني نسيتها.

ولكن لم يكن من الممكن تحديد مكانها في كتابات نيتشه بدقة – هل يمكن أن تكون شيفرة؟ أو حلما؟ هل تعني علامات الاقتباس حولها أنه كان يتظاهر فقط بأنه نسي مظلته؟ هل يمكن أن تكون السطر الأخير من نكتة كان يحاول تذكرها؟ أو ربما كانت أداة لتقوية الذاكرة لأعظم بصيرة في تاريخ الفلسفة؟ أي شخص يفترض أنه يعرف الإجابة فهو ينطق بالكذب – وهذا ينطبق على كل سطر غير منشور تركه نيتشه.

بالنسبة لمفكرين مثل دريدا، المطلعين على العلاقات بين القوى، دائماُ ما ينطوي فرض المعنى على خطر "الاستبداد" – هذه النُسخة من الحقيقة ولا شيء سواها. مهما كان الباحث أو المحرر محايداً، إلا إنه يستمر في جلب تصوراته المسبقة وأجندته ونقاطه العمياء إلى عمله.

الهجوم الثاني على منهجية الإيطاليين جاء في عام 1975. حيث كان من المقرر أن يُنشر المجلد الأول من الأرشيف الجديد لأعمال الشاعر الرومانسي الألماني فريدريش هولدرلين (1770-1843)، وكان الأرشيف سيحتوي على – كل شيء! وفي حين كان من المقرر أن تستمر مهمة النسخ، فإن مهمة التنظيم لن تكون كذلك، باستثناء ترتيب المواد ترتيباً زمنياً. ثم يقوم القارئ بعد ذلك بالتنظيم، فيضم ويستبعد المواد حسب ما يراه مناسباً. وبهذا يستطيع أن يفلت من هيمنة المحرر.

كان هذا مقدمة لشكل أكثر انفتاحاً من أشكال الأرشفة – النُسخ المقلدة. فقد سمحت التكنولوجيا الحديثة بتصوير صفحات المخطوطات، بحيث يمكن عرضها على شكل كتاب أو، في وقت لاحق، على أقراص مضغوطة ثم على الإنترنت. وكان من المقرر نشر المجلدات الأخيرة من نُسخة مونتيناري النهائية لأرشيف نيتشه بعد فترة طويلة من وفاته، حيث أعلن الناشر أنها ستتكون من "نُسخ كاملة من ملاحظات نيتشه، بالترتيب المكاني للمخطوطات مع كل زلات القلم، والمحذوفات، والتصحيحات – وليس على الشكل المعدل من النصوص المتسلسة".

كان نيتشه قد بدأ حياته كعالم لغة – وهو التخصص الذي يدرس النصوص الأدبية من خلال القراءة الدقيقة بهدف اكتشاف معانيها "الأصيلة" أو "الحقيقية". ولكنه، في وقت لاحق، انصرف عن هذا المجال باعتباره "علماً للمهووسين"، و"عملاً متكرراً ومملاً". ولكنه قال أيضاً:

ينبغي فهم علم اللغة هنا، بالمعنى العام جداً، باعتباره فن القراءة الجيدة – التعرف على الحقائق دون تزويرها من خلال التأويل، دون فقدان الحذر والصبر والدقة في السعي إلى الفهم... سواء كان ذلك فيما يتعلق بالكتب، أو الأعمدة الصحفية، أو الأقدار، أو الأحداث الجوية.

هل تتطلب مثل تلك الأحداث الجوية مظلة؟ يقول فيلش، في أحد الهوامش، إن المصدر قد عُثر عليه الآن – وهو مأخوذ من كتاب مُصوَّر نشر في عام 1844 بعنوان "عالم آخر"[4]. إنه كتاب مكون من أوهام بصرية، وعوالم خيالية، وتصنيفات عبثية، وسخرية من المجتمع والكتب. ماذا يعني ذلك لنيتشه؟ خلافاً لادعاء دريدا بأنه لا يمكن ربط أي شيء بهذه الجزئية، فإن العلماء يتعمقون الآن في "عالم آخر"، ويحللونه بحثاً عن صدى نيتشه.

آخر كتب نيتشه المنشورة كان "هو ذا الإنسان"، والذي حمل عنواناً فرعياً "كيف يصبح المرء ما هو عليه". ويعتبر الكتاب نوعاً من المذكرات، حيث يمكن قراءة عناوين الفصول – "لماذا أنا حكيم إلى هذه الدرجة"، و"لماذا أنا ذكي إلى هذه الدرجة"، و"لماذا أكتب مثل هذه الكتب الجيدة"، و"لماذا أنا قَدَر" – إما على أنها صادقة أو كوميدية – فقد كان يدرك تمام الإدراك أن لا أحد يشتري كتبه، فضلاً عن قراءتها. وبسبب جنونه، لم يكن له رأي في كيفية تشكيل صورته، لكنه قدم في "هو ذا الإنسان" التماساً أخيراً يمكن أن تقدمه أي شخصية عامة: "إسمعوني! فأنا كذا وكذا من الأشخاص. وفوق كل شيء، لا تسيئوا فهمي على أنني شخص آخر".

Likes
24
Views
275
[1] بيتر سالمون كاتب أسترالي يعيش في المملكة المتحدة. وهو مؤلف كتاب ”حدث مهم ربما: سيرة شخصية لجاك دريدا“ (2020)، وقد نشرت كتاباته في عدة صحف ومجلات بريطانية وأسترالية.
[2] ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) روائي ومسرحي روسي كان يعمل طبيباً واشتهر برواية ”المعلم ومارغريتا“ التي اعتبرت من أعظم الروايات في القرن العشرين.
[3] آلان بينيت (ولد في 1934) مؤلف وكاتب مسرحي وسيناريو وممثل إنجليزي فاز بالعديد من الجوائز.
[4] ”عالم آخر“ (Un Autre Monde) كتاب مٌصوَّر نُشر في باريس عام 1844، رسمه جان جاك جراندفيل وكتب نصوصه تاكسيل ديلورد.
Source: Paper Trails
By Peter Salmon