لعلك استمعت لمحاضرة عرض فيها متحدث سليم النية على الحضور صوراً لمجرات بعيدة. الكون شاسع، وعدد النجوم والكواكب فيه يربك العقل البشري. الأرض ضئيلة جداً مقارنة بالأجرام السماوية الضخمة، وأقرب نجم إلينا - الشمس - ليس بتلك الروعة أيضاً. كما أننا لا نشغل مكانة خاصة في الفضاء: لسنا في مركز الأشياء، وبقية الكون لا يدور حولنا. موقعنا، في الحقيقة، عادي تماماً. ما الذي يترتب على كل هذا بالنسبة لتصورنا لأنفسنا؟
عندما تُعرض صور المجرات على الجمهور، يكون الهدف عادةً الإشارة إلى أننا، نحن البشر، لسنا مهمين جداً. كان أسلافنا يتصورون أن البشرية هي ذروة الخليقة، وأن إلهاً يهتم لأمرنا وضعنا في مركزها، لكن هذه الفكرة نابعة من الغطرسة.
أظن أن ضعف القدرة على الرصد هي التي دفعت الناس في الماضي إلى افتراض أن كوكبنا ثابت وأن أجراماً سماوية أخرى تدور حوله، ولكن يمكننا أن نتجاوز هذه المسألة هنا. كذلك ليس واضحاً ما إذا كان من المعقول اعتبار فرضية الإله تعبيراً عن كبرياء غير مبرر، لإنها تتطلب قبول فكرة مفادها: بما أننا كائنات معيبة، إذن يوجد كائن كامل يستحق العبادة. وهكذا، قد تكون فرضية الإله أكثر تواضعاً من فرضية كون بلا إله. ولكن هذه مسألة أخرى لا أرغب في الحديث عنها أيضاً. ما يهمني هنا هو الاستنتاج الذي يجب أن نستخلصه في ضوء معرفة المزيد عن مكاننا في الكون، وليس لماذا قام أسلافنا الذين كانوا يعرفون أقل مما نعرف حالياً بتخمينات مختلفة.
النقطة الأولى التي تجدر ملاحظتها هي أن مسألة أهمية الإنسان في الكون مسألة فريدة. عادة ما تكون هذه الأهمية نسبية وتتضمن المقارنة. فعندما نقول إن شيئاً ما أقل أهمية مما كنا نعتقد، فهذا يعني ضمنياً أن أشياء أخرى أكثر أهمية.
إذا قلتَ إن الممتلكات المادية أقل أهمية مما يظنه شخص ما، فأنت تلمح إلى أن شيئاً آخر - ربما الصداقة، أو الحب، أو الإدراك الإبداعي - أكثر أهمية. وإذا أكدتَ أن المكانة الاجتماعية أو المهنية للشريك العاطفي ليست مهمة، فأنت تزعم أن صفات أخرى - ربما الجاذبية، أو الموثوقية، أو اللطف - أعلى قيمة. لكن في الكون ككل، لا شيء ينافس اهتمامات الإنسان ومصالحه سوى مصالح الكائنات الأخرى على الأرض. إذن ماذا يعني القول إنه نظراً لاتساع الفضاء، فإننا أقل أهمية مما كنا نعتقد؟
من الممكن، وربما من المرجح، أننا نعطي الأولوية لأنفسنا أكثر مما ينبغي بالمقارنة مع الحيوانات، ولكن صور المجرات لا تدعم هذا الادعاء على الإطلاق. ففي نهاية المطاف، هناك أنواع أخرى من الكائنات على هذه الأرض تستوطن الكوكب الصغير ذاته الذي يُزعم أنه غير مهم.
يُقال أحياناً إن أهميتنا أقل مما كنا نتصور، لأن الكون، كما اتضح، لا يكترث بمصيرنا. وللأسف، لن يذرف دمعة واحدة عندما نختفي في النهاية مع كوكبنا الذي نسميه "موطننا".
صحيح أن فناءنا المحتوم لن يُقابَل بحزن كوني، لكن ليس من الواضح ما الذي سيترتب على ذلك أيضاً. فالكون لا يفضّل أي كوكب آخر على كوكبنا، بل لا يمكنه ذلك. في الواقع، بما أن الكون لا يملك القدرة على الاهتمام، فإن الحديث عن "اللامبالاة" بالنسبة له مجازي في أحسن الأحوال: فهو، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يهتم ولا يبقى على حال اللامبالاة. لو كان بإمكانه الاهتمام ولكنه فضّل، لسبب غريب، كوكباً أكبر بكثير لا حياة عليه، سيُظهر ذلك قصوراً في أولوياته وليس أولوياتنا.
ولكن، ربما يكون الحديث عن منظور الكون مجازياً أيضاً. من الناحية الموضوعية، ربما يكون الادعاء الحقيقي هو أننا غير مهمين بقدر ما كنا نعتقد. إذا كان الكون يفضّل كوكباً أكبر ولكنه غير صالح للسكن، فقد يكون ذلك مُضلّلاً أيضاً من الناحية الموضوعية، لكن الكون لا يفعل شيئاً كهذا. أما نحن، من الناحية الأخرى، فإننا مُضلَّلون، من وجهة نظر محايدة. نتخيل أنفسنا أكثر أهمية مما نحن عليه في الواقع.
هل نفعل ذلك؟
قد يظن أي فرد أنه أهم مما هو عليه في الواقع، سواءً لعائلته أو لزملائه في العمل أو للبشرية جمعاء. وكجنس بشري، قد تكون لدينا نظرة مبالغ فيها لحقوقنا وأهميتنا بالمقارنة مع الحيوانات. لكن من الصعب أن نتصور كيف أن الكوكب بأكمله، بكل ما فيه من حياة، قد يكون أقل أهمية مما كنا نعتقد. في الواقع، ليس واضحاً ما يعنيه هذا الادعاء.
الحياة الواعية هي مصدر كل ما يهم. على حد علمنا، لا توجد حياة واعية في أي مكان آخر، لذا لا يوجد أي مكان آخر في التسلسل الزمكاني، أينما كان، يحمل أي أهمية. في كل لحظة، تحدث العديد من الانفجارات الكونية الهائلة، وتولد نجوم جديدة - كثير منها أكبر بكثير من الشمس - ولكن لا شيء من ذلك يُحدث فرقاً لأحد (ربما باستثناء البشر). يبدو الأمر كما لو أن الكون عبارة عن سلسلة من المؤثرات الخاصة لفيلم بلا حبكة ولا جمهور مستهدف، مستمرة لمليارات السنين. وأبرز ما يُعرف عنه ليس حجمه ولا عدد النجوم والكواكب فيه، بل حقيقة وجودنا هنا، مع الحيوانات الأخرى.
لا ينفي هذا أن صور المجرات تعيد الأمور إلى نصابها. في الواقع، لدي صورة من هابل العميق[2] معلقة على جدار غرفة المعيشة بدلاً من لوحة فنية. أستمتع بالجاذبية الجمالية - التي ربما تحققت بإضافة الألوان الاصطناعية - ولكني أحب أيضاً رؤية المنظور الأوسع. ثمة شيء علاجي في تذكيرنا بأن الأمور التي تهمنا لها تاريخ انتهاء صلاحية.
يمكن أن يكون المنظور الأوسع ترياقاً، ليس للغطرسة بقدر ما هو للعصاب. فبينما ستختفي، للأسف، اللوحات الفنية والمسرحيات والسيمفونيات في غياهب النسيان، سيزول أيضاً كل ألم. لن يكون بمقدورنا أن نرتكب أو نعاني من أي فعل شرير لا نهاية له. أي شخص تعرض للرجم حتى الموت في العصور الوسطى كان سيموت منذ قرون، سواء بالرجم أو غيره. سيكون قد مات ونُسِي كما هو ميت ومنسي الآن، مهما اختلفت الطريقة التي انتهت بها قصته.
سيكون هذا صحيحاً بالنسبة لنا جميعاً في نهاية المطاف؛ بل وأكثر صحة في الواقع، لأن النسيان الذي سنختفي فيه جميعاً دون أثر بسبب فناء الأرض سيكون أعمق كثيراً من النسيان الذي يختفي فيه أحد الموتى من البشر بينما لا يزال هناك بشر آخرون.
إذن، صحيح أن كوكبنا سيختفي في وقت ما، وأن كل ما يهمنا سيفقد أهميته. ولكن من الخطأ أن نستنتج من هنا أن كوكبنا، ونحن كجنس بشري، أقل أهمية بكثير مما كنا نعتقد.
بما أن الحياة الواعية هي مصدر كل ما يهم، وطالما لا توجد كائنات فضائية ذكية في مكان ما، وإلى أن نتعلم كيف نعيد تشكيل الكواكب الأخرى لتصبح صالحة للعيش، فلا يوجد الآن مكان آخر في الكون له أهمية ولن يوجد في المستقبل - لا بالنسبة للكون، ولا موضوعياً، ولا بأي شكل آخر. وإذا انتقلنا إلى كوكب آخر، فلن يكون ذلك الكوكب مهماً إلا بفضلنا.
عندما يختفي كوكبنا بكل ما عليه من حياة، ستستمر الانفجارات الكونية الهائلة، ولكن ذلك لن يُحدث فرقاً لأحد. من ذلك الحين فصاعداً، لن يكون أي شيء ذا أهمية على الإطلاق، وربما إلى الأبد.