رغم أن إحدى أصعب لحظات الوحدة في حياتي حدثت قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، إلا أن تلك التجربة المؤلمة بشكل فريد مازالت عالقة في ذاكرتي. كنت قد عدت للتو إلى أرض الوطن من فصل دراسي في إيطاليا. خلال إقامتي في فلورنسا، تطورت لغتي الإيطالية لدرجة أنني كنت أحلم بها. كما طورت اهتمامات فكرية بالمستقبلية الإيطالية[2] والدادية[3] والعبثية الروسية[4] - اهتمامات لم تنبع بالكامل من إعجابي بالأستاذ الذي كان يُدرّس أحد المقررات الدراسية في هذه المواضيع - بالإضافة إلى سوناتات الحب لدانتي[5] وبترارك[6] (التي ربما كانت مرتبطة أيضاً بهذا الإعجاب). غادرت الفصل الدراسي وأنا أشعر، كما يشعر العديد من الطلاب على الأرجح، بتحول ليس فكرياً فحسب، بل عاطفي أيضاً. لقد أصبحت رؤيتي للعالم معقدة، وتجربتي مع هذا العالم أغنى وأكثر اهتماماً بالتفاصيل الدقيقة.
بعد ذلك الفصل الدراسي، عدت إلى منزلي في بلدة صغيرة ذات غالبية من الطبقة العاملة في نيوجيرسي. المنزل المقصود هنا هو منزل والديّ صديقي، الذي كان قيد الحجز العقاري، لكن البنك لم يستحوذ عليه بعد. رحل الوالدان للعيش في مكان آخر، وسمحا لي مشكورين بالبقاء هناك مع صديقي وأخته وصديقها خلال العطلات الجامعية. وأثناء الإجازات الأسبوعية، كنت أقضي معظم وقتي مع هؤلاء الذين فرضهم الأمر الواقع كرفقاء سكن، بالإضافة إلى ثلة من أعز أصدقاء طفولتي.
عندما عدت من إيطاليا، كان لدي الكثير مما أردت أن أشاركهم إياه. أردت التحدث مع صديقي حول المستقبلية الإيطالية وكيف وجدتها مثيرة للاهتمام من الناحية الجمالية ولكن مملة من الناحية الفكرية. أردت أن أنقل لأقرب صديقاتي مدى تأثري بسوناتات الحب الإيطالية، وكيف تمكن بوب ديلان من التعبير عن قوتها ببراعة ("وكانت كل كلمة منها صادقة/ ومتوهجة كالجمر المشتعل/ تتدفق من كل صفحة/ كما لو كانت مكتوبة في روحي...")[7]. وإضافة إلى حاجتي الماسة لمشاركة جوانب محددة من حياتي الفكرية والعاطفية التي أصبحت جوهرية في فهمي لذاتي، شعرت أيضا برغبة متزايدة بشكل كبير في التفاعل الفكري، وكذلك الحاجة الماسة لتقدير حياتي العاطفية بكل عمقها وثرائها، تقدير كياني بأكمله، هذا الكيان الجديد. عندما عدت إلى الوطن، شعرت ليس فقط بعجزي عن التفاعل مع الآخرين بطرق تلبي احتياجاتي الجديدة، بل أيضاً بعدم الاعتراف بي كما أصبحت منذ رحيلي. لقد شعرت بوحدة عميقة ومؤلمة.
هذه التجربة ليست نادرة بين طلاب الخارج. فحتى مع وجود شبكة علاقات محبة وداعمة، غالباً ما يواجه المرء "صدمة ثقافية عكسية" - ما يصفها عالم النفس كيفن غاو بأنها "عملية إعادة تكيف وتأقلم واندماج في ثقافة الوطن بعد العيش في ثقافة مختلفة لفترة طويلة" - ومشاعر الوحدة سمة مميزة للأفراد الذين يمرون بهذه العملية.
ولكن هناك العديد من التجارب الحياتية الأخرى المألوفة التي تثير مشاعر الوحدة، حتى لو كان الأفراد الذين يمرون بهذه التجارب لديهم أصدقاء وعائلات مُحبة: الطالب الذي يعود إلى عائلته وأصدقائه بعد عام أول تحولي في الكلية؛ والمراهقة التي تعود إلى منزل والديها المحبين ولكن المكبوتين بعد صحوة جنسية في مخيم صيفي؛ والمرأة الملونة من الجيل الأول في قسم الدراسات العليا التي تشعر بأنها تحظى بالاهتمام ولكنها تكون أيضاً "بين عالمين" بشكل مستمر، حيث يساء فهمها ولا تُرى بالكامل إما من قبل أعضاء قسمها أو عائلتها وأصدقائها في الوطن؛ والممرضة المتنقلة التي تعود إلى وطنها وشريكها وأصدقائها بعد مهمة عمل ذات أهمية خاصة (أو ربما مرهقة نفسياً بشكل خاص)؛ والرجل الذي يمر بانفصال صعب عن شريكة حياته التي عاش معها مدة طويلة؛ والمرأة التي تصبح أول أم في مجموعة أصدقائها؛ والقائمة تطول.
لا يتطلب الأمر حدثاً تحولياً في الحياة لإثارة مشاعر الوحدة. فمع مرور الوقت، غالباً ما يحدث أن الأصدقاء والعائلة الذين كانوا يفهموننا جيداً في السابق يفشلون في فهمنا كما كانوا يفعلون من قبل، ويفشلون في رؤيتنا كما كانوا يفعلون سابقاً. وهذا أيضاً يؤدي إلى الشعور بالوحدة - وإن كان هذا الشعور قد يتسلل تدريجياً وبشكل خفي. يبدو أن الوحدة خطر وجودي، وهو أمر دائماً ما يكون البشر معرضين له - وليس فقط عندما يكونون لوحدهم.
في كتابه الأخير "الحياة صعبة" (2022)، يصف الفيلسوف كيران سيتيا الوحدة بأنها "ألم الانفصال الاجتماعي". ويؤكد في كتابه على أهمية دراسة طبيعة الوحدة - لماذا تكون مؤلمة وما الذي "يُخبرنا به هذا الألم عن كيفية العيش" - لا سيما في ظل انتشارها في عصرنا الحالي. ويشير، بشكل صحيح، إلى أن الوحدة ليست مجرد عزلة تامة عن الآخرين، إذ يمكن للمرء أن يشعر بالوحدة حتى في غرفة مليئة بالناس. ويضيف، بما أن الآثار النفسية والفسيولوجية السلبية للوحدة "تبدو وكأنها تعتمد على التجربة الذاتية لكون المرء وحيداً"، فإن مكافحة الوحدة بفعالية تتطلب منا تحديد أصل هذه التجربة الذاتية.
يقول سيتيا إننا "حيوانات اجتماعية ذات احتياجات اجتماعية" تشمل بشكل حاسم الحاجة إلى الحب وتقدير قيمتنا الأساسية. عندما نفشل في تلبية هذه الاحتياجات الأساسية، كما يحدث عندما نكون بعيدين عن أصدقائنا، فإننا نعاني من الوحدة. فبدون وجود الأصدقاء الذين يشعروننا بأهميتنا، نعاني من "شعور مؤلم بالفراغ، فراغ في أنفسنا كان ممتلئاً في السابق ولم يعد كذلك". هذه هي الوحدة في أبسط صورها. (يستخدم سيتيا مصطلح "الأصدقاء" بشكل عام، ليشمل العائلة المقربة والشركاء العاطفيين، وأنا هنا أسير على خطاه).
تخيل امرأة تحصل على وظيفة تتطلب الانتقال بعيداً إلى منطقة لا تعرف فيها أحداً. حتى لو كان هناك الكثير من الجيران والزملاء الجدد الذين يستقبلونها عند وصولها، يدعي سيتيا أنها ستميل إلى الشعور بالوحدة، لأنها لم يكن لديها علاقات وثيقة ومحبة مع هؤلاء الأشخاص حتى ذلك الوقت. بعبارة أخرى، ستميل إلى الشعور بالوحدة لأنها ليس لديها أصدقاء يعكس حبهم لها قيمتها الأساسية كشخص، أصدقاء يجعلونها ترى أنها حقاً مهمة. فقط عندما تبني صداقات حقيقية ستشعر بالاعتراف بقيمتها غير المشروطة؛ عندها فقط ستُلبى احتياجاتها الاجتماعية الأساسية في أن تحظى بالحب والتقدير. بمجرد أن تشعر أنها مهمة حقاً لشخص ما، من وجهة نظر سيتيا، سيخف شعورها بالوحدة.
سيتيا ليس الوحيد الذي يربط بين الشعور بالوحدة وغياب التقدير الأساسي. ففي كتابها "أصول الشمولية" (1951)، على سبيل المثال، تُعرّف حنة أرندت الوحدة أيضاً بأنها شعور ينشأ عندما يفشل المرء في تحقيق وتأكيد الاعتراف بكرامته أو قيمته غير المشروطة كشخص، وهو شعور ينشأ عندما لا تُلبّى هذه الحاجة، التي هي إحدى "المتطلبات الأساسية للطبيعة البشرية".
هذه النظريات عن الوحدة صحيحة إلى حد بعيد. لكنها تغفل شيئاً ما أيضاً. بناءً على هذه الآراء، فإن الصداقات المُحبة تمكننا من تجنب الوحدة لأن الصديق المُحب يقدم لنا شكلاً من أشكال التقدير الذي نحتاجه ككائنات اجتماعية. وبدون صداقات مُحبة، أو عندما نكون بعيدين عن أصدقائنا، لا نستطيع الحصول على هذا التقدير. فنصبح وحيدين. ولكن لاحظ أن السمة التي يؤكدها الصديق - قيمتي غير المشروطة - مجردة من شخصيتي تماماً. فالخاصية التي يقدّرها الصديق ويؤكدها فيّ هي الخاصية ذاتها التي يقدرها ويؤكدها في صداقاته الأخرى. بعبارة أخرى، فإن التقدير الذي يُزعَم أنه يخفف من حدة الوحدة من وجهة نظر سيتيا هو تقدير الصديق لسمة مجردة وغير شخصية لذات الفرد، إنها صفة يتشاركها مع كل إنسان آخر: قيمته غير المشروطة كإنسان. (التقدير الذي يقدمه الصديق المُحب هو أنني "[مهمة]... تماماً كأي شخص آخر").
بما أن كرامتي أو قيمتي منفصلتان عن أي سمة خاصة بي كفرد، يستطيع صديقي أن يقدّر تلك القيمة ويؤكدها دون الاعتراف بـ أو التفاعل مع احتياجاتي أو قيمي الخاصة وما إلى ذلك. إذا كان سيتيا مصيباً، فيمكن لهذا الصديق أن يخفف من وحدتي دون التفاعل مع شخصيتي.
أم أنه يستطيع ذلك؟ قد تكون النظريات التي تربط الوحدة بفشلٍ في التقدير الأساسي (وتخفيف الوحدة من خلال الحب والاعتراف بكرامة المرء) صحيحة بشأن أصل بعض أشكال الوحدة. لكن يبدو لي أن هذا أبعد ما يكون عن الصورة الكاملة، وأن نظريات كهذه تعجز عن تفسير مجموعة واسعة من الظروف المألوفة التي تنشأ فيها الوحدة.
عندما عدت من الدراسة في الخارج، عدت إلى شبكة صداقات قوية ومحبة. كنت محاطة يومياً بمجموعة مخلصة من الأشخاص الذين يقدّرون ويؤكدون، بشكل مستمر، قيمتي غير المشروطة كشخص، وتحملوا ادعاءاتي البغيضة (هكذا بدا الأمر على الأرجح)، وتقبلوني رغم أنني كنت مختلفة في جوانب جوهرية عن الصديقة التي عرفوها من قبل. ومع ذلك، كنت أعاني من الوحدة. في الواقع، بينما أصبح لدي صداقات وثيقة أكثر من ذي قبل - وأصبحت علاقتي مع الأصدقاء وأفراد العائلة أقرب مما كانت في السابق - كنت أكثر وحدة من أي وقت مضى. وهذا ينطبق أيضاً على السيناريوهات المألوفة المذكورة أعلاه: طالب السنة الأولى في الكلية، والأم الجديدة، والممرضة المتنقلة، وما إلى ذلك. كل هذه السيناريوهات تمهد الطريق لمشاعر مؤلمة من الوحدة، على الرغم من أن الأفراد الذين يمرون بهذه التجارب لديهم شبكات محبة من الأصدقاء والعائلة والزملاء الذين يدعمونهم ويقدّرون قيمتهم غير المشروطة.
لذا، لا بد أن للوحدة أبعاداً أخرى غير تلك التي كشفت عنها نظرية سيتيا (ونظريات أخرى مشابهة). بالطبع، إذا لم تُقدّر قيمة الفرد، سيشعر بوحدة شديدة. ولكن، كما يشعر المرء بالوحدة في غرفة مليئة بالغرباء، فإنه يشعر بالوحدة أيضاً في غرفة مليئة بالأصدقاء. إن ما يفسد النظريات التي تربط الوحدة بغياب التقدير الأساسي هو أنها تفشل في إنصاف الوحدة كشعور يظهر ليس فقط عندما يفتقر المرء إلى علاقات إيجابية ومحبة كافية، بل أيضاً عندما يدرك أن علاقاته (بما في ذلك، وربما تحديداً، علاقات الحب) تفتقر إلى الجودة الكافية (على سبيل المثال، تفتقر إلى العمق أو الشعور المرغوب بالتواصل). سيدرك الفرد أن هذه العلاقات تفتقر إلى الجودة الكافية عندما لا يلبي أصدقاؤه وعائلته احتياجاته المحددة، أو لا يقدّرون ويؤكدون شخصيته الفردية الخاصة.
نرى هذا بشكل خاص أثناء أو بعد أحداث انتقالية وتحولية في الحياة، عندما تحدث انتقالات أو تحولات أكبر من المعتاد. نتيجة لمثل هذه التجارب، غالباً ما نطور قيماً واحتياجات جوهرية ورغبات مركزية جديدة، ونفقد قيماً واحتياجات ورغبات أخرى في هذه العملية. بعبارة أخرى، بعد المرور بتجربة تحولية خاصة، نصبح أشخاصاً مختلفين في جوانب رئيسية عما كنا عليه من قبل. إذا لم يتمكن أصدقاؤنا، بعد هذا التحول الشخصي، من تلبية احتياجاتنا الجوهرية التي تطورت حديثاً أو تقدير وتأكيد قيمنا ورغباتنا المركزية الجديدة - ربما لأنهم في الغالب لا يستطيعون ذلك، لأنهم لم يدركوا أو يفهموا (بعد) مَنْ أصبحنا - فإننا سنعاني من الوحدة.
هذا ما حدث لي بعد إيطاليا. بحلول وقت عودتي، كنت قد طورت احتياجات جوهرية جديدة - على سبيل المثال، الحاجة إلى مستوى ونوع معينين من التفاعل الفكري - والتي لم تُلبَّ عند عودتي إلى الوطن. إضافة إلى ذلك، لم أجد أنه من العدل أن أتوقع من أصدقائي تلبية هذه الاحتياجات. ففي النهاية، لم تكن لديهم الأطر المفاهيمية لمناقشة العبثية الروسية أو سوناتات الحب الإيطالية في القرن الثالث عشر؛ لم تكن هذه ببساطة أشياء أمضوا وقتاً في التفكير فيها. لم ألـُمهم؛ فتوقعي منهم أن يطوروا أو يهتموا بتطوير مثل هذا الإطار المفاهيمي بدا لي سخيفاً. ومع ذلك، فبدون إطار مشترك، شعرت بالعجز عن تلبية حاجتي إلى التفاعل الفكري وإيصال كمال حياتي الداخلية إلى أصدقائي، التي طغت عليها قيم جمالية محددة للغاية، قيم شكلت نظرتي للعالم. ونتيجة لذلك، شعرت بالوحدة.
بالإضافة إلى تطوير احتياجات جديدة، أدركت أنني قد تغيرت في جوانب أساسية أخرى. فبينما كنت أعلم أن أصدقائي يحبونني ويؤكدون قيمتي غير المشروطة، لم أشعر عند عودتي إلى الوطن أنهم قادرون على رؤية وتأكيد شخصيتي الفردية. لقد تغيرتُ جذرياً؛ في الحقيقة، شعرت في بعض الجوانب أنني مجهولة تماماً حتى من قبل أولئك الذي يعرفونني جيداً. بعد إيطاليا، تبنيت منظوراً مختلفاً وأكثر اهتماماً بالتفاصيل الدقيقة للعالم؛ فأصبح الجمال والإبداع والنمو الفكري قيماً أساسية لدي؛ وأصبحت عاشقة جادة للشعر؛ وفهمت نفسي كفيلسوفة ناشئة. في ذلك الوقت، لم يتمكن أقرب أصدقائي من رؤية وتأكيد هذه الجوانب من شخصيتي، جوانب كان حتى الغرباء نسبياً في الفصل الجامعي على دراية بها (مع أن هؤلاء المعارف، بالطبع، لم يعرفوني ولم يكونوا مؤهلين لتلبية احتياجاتي الأخرى التي كان يلبيها أصدقائي منذ زمن طويل). عندما عدت إلى الوطن، لم أعد أشعر بأن أصدقائي يرونني حقاً.
لا يحتاج المرء لقضاء فصل دراسي في الخارج لتجربة هذا الشعور. على سبيل المثال، الممرضة التي اختارت مهنتها في البداية كوسيلة للاستقرار المهني والمالي، وبعد أن تمرّ بتجربة مؤثرة بشكل خاص مع أحد المرضى، قد تجد نفسها مدفوعة برغبة جديدة ومركزية لإحداث فرق في حياة مرضاها. وإضافة إلى جانب الرغبات، قد تتغير قيمها الأساسية: ربما تطور قيمة أساسية جديدة لتخفيف المعاناة حيثما أمكن ذلك. وقد تجد في بعض سمات وظيفتها - تلك التي لا تشمل تخفيف المعاناة، أو تشمل تخفيف محدود للمعاناة - أنها غير مُرضية كما كانت من قبل. بعبارة أخرى، قد تطور حاجة جديدة لشكل معين من أشكال التأثير الهادف - وهي حاجة، إذا لم تُلبَّ، ستتركها تشعر بالتسطح مع شعور عميق بعدم الرضا.
تغييرات مثل هذه - تغييرات إلى ما يُحركك حقاً، إلى ما يُشعرك بالرضا العميق - هي تغييرات جذرية. أن تتغير في هذه النواحي يعني أن تتغير تماماً. حتى لو كان لديك أصدقاء محبون، إذا لم يتمكن أصدقاؤك من تقدير وتأكيد هذه السمات الجديدة فيك، قد تشعر بأن لا أحد يراك، ولا أحد يقدر قيمة شخصيتك الحقيقية. في تلك اللحظة سوف يأتي الشعور بالوحدة. ومن المثير للاهتمام - وهو أمر مزعج بشكل خاص بالنسبة لنظرية سيتيا - أن مشاعر الوحدة تميل إلى أن تكون بارزة ومؤلمة بشكل خاص عندما يكون الأشخاص الذين يعجزون عن تلبية هذه الاحتياجات هم أولئك الذين يحبوننا بالفعل ويؤكدون قيمتنا غير المشروطة.
لذا، حتى مع الأصدقاء المحبين، إذا شعرنا بأننا لا نستطيع أن نكون مرئيين ومؤكَّدين كما نحن في شخصيتنا الخاصة الحقيقية، أو إذا لم تُلبَّ بعض احتياجاتنا الجوهرية، سنشعر بالوحدة. سيتيا مُحق بالتأكيد في أن الوحدة ستؤدي إلى غياب الحب والتقدير. ولكنها قد تنتج أيضاً عن عجز - وأحياناً فشل - أولئك الذين تربطنا بهم علاقات محبة في مشاركة أو تأكيد قيمنا، وفي تأييد رغباتنا التي نعتبرها مركزية في حياتنا، وفي تلبية احتياجاتنا.
بعبارة أخرى، تتجاوز احتياجاتنا الاجتماعية مجرد الاعتراف غير الشخصي بقيمتنا غير المشروطة كبشر. قد تكون هذه الاحتياجات واسعة الانتشار كالحاجة إلى التعلق العاطفي المتبادل، أو محدودة كالحاجة إلى مستوى معين من التفاعل الفكري أو التبادل الإبداعي. ولكن حتى عندما تكون الحاجة المعنية محدودة أو غير مألوفة، إذا كانت حاجة عميقة تتطلب أن يلبيها شخص آخر ولا يتم تلبيتها، فسنشعر بالوحدة. حقيقة أن معاناتنا من الوحدة حتى مع عدم تلبية هذه الاحتياجات المحددة تُظهر أن فهم هذا الشعور ومعالجته يتطلبان الاهتمام ليس فقط بمدى تأكيد قيمتي، بل أيضاً بمدى الاعتراف وتأكيد شخصيتي الخاصة، وما إذا كان من حولي يلبي احتياجاتي الاجتماعية الخاصة، حتى وإن كانت غريبة.
علاوة على ذلك، بما أن احتياجات الناس تختلف، فإن الظروف التي تسبب الوحدة تختلف أيضاً. فالذين تكون لديهم حاجة ماسة للاعتراف بتميزهم قد يكونون أكثر عرضة للوحدة. أما من تكون لديهم حاجة أقل للاعتراف أو الارتباط العاطفي المتبادل، فقد يعانون من عزلة اجتماعية شديدة دون الشعور بالوحدة إطلاقاً. قد يخفف بعض الناس من حدة الوحدة بتكوين دائرة واسعة من الأصدقاء غير المقربين، كل واحد منهم يلبي حاجة مختلفة أو يقدر جانباً مختلفاً من شخصيتهم. ومع ذلك، قد يصر آخرون على وحدتهم دون صداقات عميقة وحميمة يشعرون فيها أنهم مرئيون ومقدرون بشكل كامل بكل ما فيهم من تعقيد، باكتمال كيانهم.
مع ذلك، وبصفتنا كائنات متغيرة باستمرار، مع أصدقاء وأحباء متغيرين باستمرار أيضاً، فإننا دائماً ما نكون عرضة للوحدة وألم المواقف التي لا تلبى فيها احتياجاتنا. معظمنا يتذكر أحد الأصدقاء الذي كان يوماً ما يلبي بعض احتياجاتنا الاجتماعية الأساسية، لكنه في النهاية - تدريجياً، وربما بشكل غير محسوس - لم يعد قادراً على ذلك. إذا لم يُلبّ الآخرون في حياة المرء هذه الاحتياجات، فإن هذا الوضع سيؤدي إلى شعور عميق ومُحزن بالوحدة.
في مثل هذه الحالات، يمكن للعلاقات الجديدة أن تقدم عوناً وإرشاداً حقيقيين. على سبيل المثال، أم جديدة ووحيدة لديها أصدقاء بلا أطفال، يجهلون احتياجاتها وقيمها التي تطورت خلال مرحلة انتقالها المعقدة للغاية إلى الأمومة؛ نتيجة لذلك، قد تبني علاقات جديدة مع أمهات أخريات أو مقدمي رعاية آخرين، أشخاص يشاركونها قيمها الجديدة، ويفهمون بشكل أفضل أفراح وآلام وتناقضات إنجاب طفل. وبقدر ما تمكنها هذه العلاقات الجديدة من تلبية احتياجاتها، وتسمح لها بالشعور بأنها حقاً مرئية، فإنها تساعد في تخفيف وحدتها. من خلال البحث عن علاقات مع آخرين قد يشاركون المرء اهتماماته، أو يكونون في وضع أفضل لتلبية احتياجاته الخاصة، يمكن للمرء أن يحاول مواجهة وحدته وجهاً لوجه.
لكنك لست مضطراً إلى التخلي عن علاقات قديمة لتكوين أخرى جديدة. عندما يعجز الأصدقاء القدامى الذين نتمسك بصداقتهم عن تلبية احتياجاتنا الجديدة، من المفيد أن نتساءل عن كيفية تخليص الموقف، إنقاذ العلاقة. في بعض الحالات، قد نختار أن نتبع استراتيجية سلبية، مدركين تقلبات العلاقات والفارق الزمني الطبيعي بين تطور الاحتياجات وقدرة الآخرين على تلبيتها. يمكنك أن "تتحلى بالصبر وتنتظر". ولكن بما أن تلبية احتياجاتك ستكون أصعب بكثير إذا لم تعبر عنها بوضوح، فإن الاستراتيجية الإيجابية تبدو أكثر فعالية. وحتى تهيئ صديقك لتلبية احتياجاتك بشكل أفضل، عليك أن تحاول التعبير عن تلك الاحتياجات وأن تبلور طرائق لا تشعر فيها بأنك مرئي.
بالطبع، لن تنجح هذه الاستراتيجية إلا إذا كانت الاحتياجات غير الملباة التي تثير شعور المرء بالوحدة هي احتياجات يمكن تحديدها والتعبير عنها بوضوح. ولكن في كثير من الأحيان - وربما دائماً - تكون لدينا احتياجات ورغبات وقيم لا ندركها أو لا يمكننا التعبير عنها بوضوح، حتى لأنفسنا. فنحن، إلى حد ما، دائماً ما نكون غامضين تجاه أنفسنا. ونظراً لهذا الغموض، قد تكون درجة معينة من الوحدة جزءاً لا مفر منه من الحالة الإنسانية. والأكثر من ذلك، إذا لم نتمكن حتى من فهم أو التعبير بوضوح عن الاحتياجات التي تثير شعورنا بالوحدة، فقد يكون تبني استراتيجية أكثر سلبية هو الخيار الوحيد المتاح لنا. في مثل هذه الحالات، فإن الطريقة الوحيدة للتعرف على احتياجاتك أو رغباتك غير الملباة هي ملاحظة أن وحدتك قد بدأت في التلاشي بمجرد أن يبدأ شخص آخر في تلبية تلك الاحتياجات والرغبات.